مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الحياء والعفاف من الإيمان

الشيخ إسماعيل حريري



العفّة والحياء من الفضائل الحسنة والأخلاق الحميدة والملكات النفسيّة التي تقود إلى الخير والصلاح والطاعة، ولهما من الآثار ما يجعل الملتزم بهما من خير الناس في الدنيا والآخرة. ولا بُدّ أوّلاً من بيان معناهما وكيف حدّدهما الإسلام، وثانياً الحديث عما ورد من الحثّ عليهما في روايات النبي والأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

* العفّة في الإسلام
العفّة هي الكف ّعمَّا لا ينبغي، أو هي الكفّ عمّا لا يحلّ(1). وفي مفردات الراغب هي: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة (2).

* العفّة في الأخبار
وتطلق العفّة في الأخبار غالباً على عفّة البطن والفرج وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة، بل المشتبهة والمكروهة أيضاً من المأكولات والمشروبات والمنكوحات، بل من مقدّماتهما، من تحصيل الأموال المحرّمة لذلك، ومن القُبلة واللمس والنظر إلى المحرّم (3). نعم ورد في بعض الروايات العفاف، وقد يُراد به ما يشمل ترك جميع المحرّمات، وليس خصوص ما يرتبط بالبطن والفرج، فقد ورد في الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أفضل العبادة العفاف" (4). والأغلب كما تقدّم على خصوص البطن والفرج، ففي الصحيح عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "ما عُبِدَ الله بشيءٍ أفضل من عفّة بطن وفرج"(5). وفي صحيح أبي بصير قال: قال رجلٌ لأبي جعفر عليه السلام: "إني ضعيف العمل، قليل الصيام، ولكنّي أرجو أن لا آكل إلّا حلالاً. قال: فقال له: أيُّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطنٍ وفرج" (6). وإذا كانت العفّة لغةً هي الكفّ عمّا لا يحلّ، مع ضميمة ما ورد في الأخبار من عفّة البطن والفرج، يكون المطلوب من العفّة شرعاً كفّ البطن والفرج عمّا لا يحلّ، فإنّ أخطر ما يكون على الإنسان وأخوفه عليه اثنان: شهوة البطن وشهوة الفرج، ولذلك ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "ثلاثة أخافهنّ على أمّتي من بعدي: الضلالة بعد المعرفة، ومضلّات الفتن، وشهوة البطن والفرج"(7)؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا انقاد إليهما وسلّم زمام نفسه لأمرهما ارتكب المحرّمات وغرق في كبائر الشهوات، فهناك من الأطعمة والأشربة المحرّمة ما تستلذّه النفس وتهواه، ومن فواحش المناكح ما تميل إليه وتنجذب، فإذا أرخى لنفسه عنان هاتين الشهوتين تقحَّم الفواحش وارتكب الحرام. ولهذا فقد ورد حفظ الفروج عن غير ما أحلّ الله تعالى، حيث قال عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (المعارج:29-30)، وقال تعالى: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ (الأحزاب: 35).

ورُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أنّه قال: "إنّ موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني سنين أو عشراً على عفّة فرجه وطعام بطنه"(8). وخلاصة عفّ البطن أن لا يأكل طعاماً حراماً، ولا يشتري طعاماً بمالٍ حرام، ولا يُدخل إلى جوفه شراباً حراماً أبداً. فالعفّة أن يقتصر في طعامه على ما أحلّه الله تعالى من الأطعمة والأشربة، ويقتصر أيضاً على بذل ثمنٍ حلالٍ لطعامٍ أو شرابٍ حلال، فقد يكون الطعام نفسه حلالاً كلحم الأنعام الثلاثة المذكّى شرعاً إلّا أنّه اشتراه بثمنٍ حرام، فيُدخل في جوفه طعاماً حراماً لجهة حرمة ثمنه. وخلاصة عفّ الفرج أن يقتصر في إشباع شهوته الجنسيّة على ما أحلّه الله تعالى له من الأزواج؛ من خلال إجراء عقد النكاح بينه وبين من يريدها، ويبتعد عن الحرام في ذلك من الزنا، فإنّه ﴿كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (الإسراء: 32)، بل عمّا دون ذلك من اللّمس والتقبيل، بل والنظر الحرام أيضاً، فقد ورد في الخبر عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: "ما من أحدٍ إلّا وهو يصيب حظّاً من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القُبلة، وزنا اليدين اللّمس، صدق الفرج ذلك أو كذب" (9).

* العفّة عن كلّ حرام
ولو أخذنا المعنى الشامل للعفّة، بمعنى العفاف في ترك جميع المحرّمات، تكون هذه العفّة مانعةً عن كلّ شهوةٍ وعن كل ما لا يحلّ، سواء أرجع إلى البطن والفرج أم لا، كأكل المال الحرام بطريقٍ غير شرعيٍ من قمارٍ وسرقةٍ وبيعِ محرّمات، وقد قال تعالى: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (النساء:29).

* الحياء في الإسلام
ورد في مجمع البحرين أنّ الحياء "تغيُّرٌ وانكسارٌ يعتري الإنسان من تخوّف ما يُعاب به ويذمّ" (10). وعن العلامة المجلسي قدس سره أنّه "ملكة للنفس توجب انقباضها عن القبيح، وانزجارها عن خلاف الآداب خوفاً من اللّوم" (11).  ونقل عن الراوندي في ضوء الشهاب أنّ "الحياء انقباض النفس عن القبائح وتركها لذلك" (12)، أي لكونها قبائح. فالحياء على هذا يكون مانعاً وزاجراً للنفس عن الفواحش والذنوب، ولذلك عُدَّ من الإيمان في الأخبار الشريفة، فقد ورد عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة" (13). وورد عن أحدهما الباقر أو الصادق عليه السلام قال: "الحياء والإيمان مقرونان في قرنٍ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه"(14). والقرن بالتحريك حبلٌ يُجمع به البعيران. فإنّ الحياء والإيمان مجموعان كالبعيرين بحبلٍ لا ينفك إلّا بيد صاحبهما، فإذا تخلّى الإنسان عن إيمانه ذهب حياؤه، وإذا تخلّى عن حيائه لم يكن من أهل الإيمان، وكأنّ الحياء دليلٌ على الإيمان وكاشف عنه عند صاحبه، وعدمه كاشف عن عدم الإيمان عنده أيضاً. وهذا ما يفيده أيضاً ما ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له" (15). فالمؤمن لا يكون إلّا حييَّاً، ولذلك نرى هذا المؤمن لا يوغل في ارتكاب الفواحش الصغيرة فضلاً عن الكبيرة، بل نرى كثيراً من المؤمنين يمنعهم حياؤهم من قول وفعل ما لا ينبغي قوله وفعله ولو لم يكن حراماً شرعاً.

* الحياء حياءان
الحياء الذي ورد أنّه من الإيمان هو حياءٌ ممدوحٌ ومطلوبٌ ومرغوبٌ به، وهو الذي ورد الحثّ عليه في الأخبار، إلّا أنَّ هناك حياءً مذموماً ومرفوضاً، أي أنّ الإنسان لا يستطيع القول: أنا أستحي، حتّى يُمدح على حيائه، بل لا بُدّ أن يكون حياؤه مرتبطاً بما يُمدح على تركه بسبب الحياء، أمّا ما لا يمدح على تركه فلا يكون تركه له حياءً ممدوحاً، مثل الحياء من السؤال فيما يرتبط بدينه وتكليفه الشرعي فيترك نفسه تعيش الجهل تمسُّكاً بهذا الحياء، ففي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل" (16). فحياء العقل هو ما كان ناشئاً عن العقل الصحيح، كالحياء من المعاصي، فهذا حياء ممدوح. وحياء الحمق هو ما كان ناشئاً عن الحمق، كأن يستحي من أمرٍ يستقبحه أهل العرف من العوام، وليست له قباحة واقعيّة يحكم بها العقل الصحيح والشرع الصريح، كالاستحياء من سؤال المسائل العلميّة أو الإتيان بالعبادات الشرعيّة التي يستقبحها الجهّال، فهذا حياء مذموم.

وقد ورد الحياء والعفاف معاً في رواية تمدحهما وتعتبرهما من الإيمان. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الحياء والعفاف والعيّ المقصود عيّ اللسان لا عيّ القلب من الإيمان" (17). وعيّ اللسان يُراد به هنا ترك الكلام فيما لا فائدة فيه. والناس كلّ الناس تستطيع أن تميّز بين الحيي العفيف وغيره، فتمدح الأوَّل وتذمّ الثاني، فإنّ الثاني بتركه للحياء وخلعه للعفّة يستبيح كلّ شيء، حيث لا رادع ولا زاجر، وهكذا إنسان لا يمكن لذي عقلٍ إلّا أن يذمّه، بخلاف الأوَّل الذي أوقفه حياؤه وعفّته عن ارتكاب القبائح والفواحش، لا يقارب إلّا ما جاز له عقلاً وشرعاً، ولا يتعدّى حدود الشرع المقدّس وأحكامه، وهكذا إنسان لا يمكن لذي عقلٍ إلّا أن يمدحه. والإسلام إنما جاء ليرسي هذه المفاهيم ويقوّيها في نفوس النّاس، ولذلك رأينا فيما ذكرناه من رواياتٍ التشديد على الأخذ بهذين الخُلُقين الفاضلين، والتمسك بهما في كلّ شاردةٍ وواردة.

اللهمّ ألبسنا ثياب التقى، واحمنا من موبقات الردى، واجعل سعينا فيما تهوى، إنّك أنت اللطيف الخبير.


(1) انظر: معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ص 621، ولسان العرب، ابن منظور، ج 9، ص 253.
(2) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 573.
(3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 68، ص 268.
(4) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 79، ح 3.
(5) م. ن، ح 1.
(6) م. ن، ح 4.
(7) م. ن، ح 6.
(8) ميزان الحكمة، الشيخ محمد الريشهري، ج 6، ص 2659، ح 3146. عن سنن ابن ماجة.
(9) وسائل الشيعة، ج 20، باب 104 من أبواب مقدمات النكاح، ص 191، ح 2.
(10) مجمع البحرين، م. س، ج 1، ص 608، مادة حيا.
(11) بحار الأنوار، م. س، ج 68، ص 329.
(12) م. ن.
(13) الكافي، م. س، ج 2، ص 106، ح 1.
(14) م. ن، ح 4.
(15) م. ن، ح 5.
(16) م. ن، ح 6.
(17) م. ن، ح 2.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع