كثرة الطعام تؤثر على الجسم والحركة والعمل والنفس
والعبادة والفهم... وهذا أمر جلي عند كل واحد منا. وأحد العناوين الكبرى للصيام شهر
رمضان وقلة أو تقنين الطعام نظرياً... آثار كثرة الطعام على الروح والبدن، أسرار
الجوع وفوائده، معانٍ اهتمت بها الأحاديث الشريفة الواردة عن الرسول صلى الله عليه
وآله وأهل البيت عليهم السلام لتنظيم حياة الإنسان وتقديم العون له في سلوكه ومساره
للوصول إلى طاعة الله تعالى.
ورد أن كثرة الطعام تترك في النفس آثاراً كثيرة منها:
أ- موت القلوب
عن رسـول اللّه صلى الله عليه وآله: "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب , فإن
القلب يموت كالزرع إذا كثر عليه الماء".(1) وعنه صلى الله عليه وآله: "القلب يتحمل
الحكمة عند خلو البطن, القلب يمج الحكمة عند امتلاء البطن".(2)
ب- قساوة القلب
عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله: "من تعود كثرة الطعام والشراب قسا قلبه".(3)
وعنه صلى الله عليه وآله: "إياكم وفضول المطعم, فإنه يَسِم القلب بالقسوة, ويبطئ
بالجوارح عن الطاعة, ويصمّ الهمم عن سماع الموعظة".(4)
ج _ فساد النفس
عن الإمام علي عليه السلام: "كثرة الأكل والنوم يفسدان النفس ويجلبان المضرة".(5)
د _ يضر بالعبادة
وعن المـسيح عليه السلام: "يا بني إسرائيل, لا تكثروا الأكل, فإنه من أكثر الأكل
أكثر النوم, ومن أكثر النوم أقلّ الصلاة, ومن أقل الصلاة كُتب من الغافلين". (6)
من علامات الخواص
ورد في حديث المعراج من علامات الخواص قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله: "يا رب,
ما علامات أولئك؟ قـال: هـم فـي الدنيا مـسجونون, قد سجنوا ألسنتهم من فضول الكلام,
وبطونهم من فضول الطعام".(7)
* معنى الجوع
الجوع هو أبرز ما يتبادر للذهن عند ذكر الصوم، وهو ألم البطن الناتج عن فراغ المعدة
من الطعام، فكل يوم نصاب جميعاً به بدرجة من درجات الجوع الاختياري غير المفروض،
وهو من قوانين البشر ومظاهر الضعف البشري.
والجوع المذكور في الروايات هو الجوع الهادف أو المقصود أو التربوي أو المتعمد.
وتعظيم الجوع لا بدَّ وأن يقف عند الحد الذي تتحقق فيه فوائده، وتنتفي آفاته، بحيث
يؤدي إلى قوة البدن والفكر والروح، ولا يؤدي إلى الضعف والمرض والموت والهلاك. إذاً
هو الجوع الإرادي التربوي المُتعمَّد الممدوح (مقابل جوع الحرمان والفقر).
* فضل الجوع المادي والمعنوي
عـن رسول الله صلى الله عليه وآله: "مـن قل طعمه صح بطنه وصفا قلبه, ومن كثر طعمه
سقم بطنه وقسا قلبه".(8) وعن الإمام علي عليه السلام: "من قلّ طعامه قلت آلامه".(9)
وظاهرة الأمراض المؤذية اليوم الآخذة بالانتشار في العالم ناتجة عن كثرة الأكل:
كالضغط والسكري وتصلب الشرايين وأمراض القلب المختلفة... والكولسترول. وعـنـه عليه
السلام: "إذا أراد اللّه سبحانه صلاح عبده ألهمه قلة الكلام, وقلة الطعام, وقلة
المنام". (10) ووضعت الحكمة والعلم في الجوع، كما وضعت المعصية والجهل في الشبع،
وما وصل الصالحون إلا بإخماص البطون.
أسرار الجوع
تكلم الغزالي عن الجوع في إحياء علوم الدين وذكر للجوع سبع فوائد هي: صفاء القلب،
ورقته، وذل النفس، وتذكُّر الجائعين، وكسر الشهوة، وخفة البدن، وقلة المؤنة (تكاليف
المعيشة). وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: إن العاقل عن اللّه الخائفَ منه
العاملَ له ليمرن نفسه ويعودها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع , وكذلك تضمر الخيل
لسبق الرهان. (11)
أما أمير المتقين الإمام علي عليه السلام فيقول: "... حَرَسَ
اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ
الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ، وَتخشِيعاً
لِأَبْصَارِهمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ،
وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ
الْوُجُوهِ بالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ
بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالمُتونِ مِنَ الصِّيَامِ
تَذَلُّلاً".(12) وحسبنا ما أشار إليه الله تعالى من أن الصوم سبيل التقوى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ﴾
(البقرة: 183).
* بعض ما ورد فيه
قال الملكي التبريزي(13) عليه شآبيب رحمة الله عز وجلَّ: "الجوع فيه فوائد للسالك
في تكميل نفسه ومعرفته بربه لا تحصى، وقد وردت في فضائله أشياء عظيمة في الأخبار لا
بأس بالإشارة إليها أولاً ثم الإشارة إلى حكمته".
روي عن النبي صلى الله عليه وآله: "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش، فإن الأجر في ذلك
كأجر المجاهد في سبيل الله وإنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش".(14) وقال
صلى الله عليه وآله لأسامة: "إن استطعت أن يأتيك ملك الموت وبطنك جائع، وكبدك ظمآن
فافعل، فإنك تدرك بذلك شرف المنازل في الآخرة، وتحلُّ مع النبيين، ويفرح الأنبياء
بقدوم روحك عليهم... ويصلّي عليك الجبّار".(15) وفي حديث المعراج قال صلى الله عليه
وآله: "يا رب, ما ميراث الجوع؟ قال: الحكمة, وحـفـظ الـقلب, والتقرب إلي, والحزن
الدائم, وخفة المؤونة بين الناس, وقول الحق, ولا يبالي عاش بيسر أو بعسر".(16)
وفـي
حـديث المعراج أيضاً قال صلى الله عليه وآله: "قال: يا أحمد هل تعلم ميراث الصوم؟
قال: لا، قال: الصوم يورث الحكمة والحكمة تورث المعرفة، وتورث المعرفة اليقين، فإذا
استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر.. فهذا مقام الراضين. فمن عمل برضاي
أُلزمه ثلاث خصال: شكراً لا يُخالطه الجهل، وذكراً لا يُخالطه النسيان، ومحبة لا
يؤثر على محبتي حب المخلوقين، فإذا أحبّني أحببته وحبّبته إلى خلقي، وأفتح عين قلبه
إلى جلالي وعظمتي فلا أُخفي عنه علم خاصّة خلقي، فأُناجيه في ظُلم الليل ونور
النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي
وأُعرّفه سرّي الذي سترته من خلقي... إلى أن قال: وأستغرقن عقله بمعرفتي، ولأقومنَّ
له مقام عقله، ثمَّ لأهونّن عليه الموت وسكراته، وحرارته وفزعه، حتى يساق إلى الجنة
سوقاً، فإذا نزل به ملك الموت يقول: مرحباً بك وطوبى لك ثمَّ طوبى لك، إن الله إليك
لمشتاق - إلى أن قال: يقول: هذه جنّتي فتبحبح فيها، وهذا جواري فاسكنه. فيقول الروح:
إلهي عرّفتني نفسك فاستغنيت بها عن جميع خلقك، وعزّتك وجلالك، لو كان رضاك في أن
اُقطّع إرباً إرباً أو أقتل سبعين قتلة بأشد ما يقتل به الناس، لكان رضاك أحب إلي -
إلى أن قال - فقال الله عز وجل: وعزّتي وجلالي لا أحجب بيني وبينك في وقت من
الأوقات حتى تدخل عليَّ أي وقت شئت، وكذلك أفعل بأحبائي"(17).
(1) ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج 1، ص 88.
(2) م. ن، ص 88.
(3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 59، ص 293.
(4) م. ن، ج 69، ص 199.
(5) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 5، ص 119.
(6) ميزان الحكمة، ج 1، ص 88.
(7) بحار الأنوار، ج 74، ص 23.
(8) ميزان الحكمة، ج 1، ص 88.
(9) يون الحكم والمواعظ، علي بن محمّد الليثي الواسطي، ص 455.
(10) ميزان الحكمة، ج 1، ص 88.
(11) م. ن، ج 1، ص 90.
(12) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج 2، ص 149.
(13) المراقبات، الميرزا الملكي التبريزي، ص 91.
(14) جامع السعادات، محمّد مهدي النراقي، ج 2، ص 5.
(15) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 8، ص 76.
(16) بحار الأنوار، ج 47، ص 22.
(17) الجواهر السنية؛ الحر العاملي، ص 198- 197.