لطالما اهتمّت التعاليم الإسلامية بمسألة الحكمة، وأمرت بطلبها من مظانها، وأخذها حتّى من الكافر والمشرك "الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها"، وذلك لما لها من أهمية وفائدة كبيرة تعود على الفرد والمجتمع. ويكفي بالحكمة أهمية أنّ تعليمها كان غاية بعثة الأنبياء إلى جانب تعليم الكتاب ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾، وإنّ الذي يؤتاها فقد أوتي خيراً كثيراً ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾.
1- تعريف الحكمة:
لقد استفاضت الروايات في تبيان معنى الحكمة، فبعضها ذهب إلى أنّ معناها المعرفة والتفقه في الدين، ومنها ما ذهب إلى أنّها طاعة الله ومعرفة الإمام، ومنها ذهب إلى كونها عبارة عن الفهم والعقل.
جاء عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "الحكمة شجرة تنبت في القلب وتثمر على اللسان".
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "إنّ الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم".
وعن الإمام الباقر عليه السلام في معنى الحكمة في الآية الشريفة: ﴿يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً﴾ قال: "هي طاعة الله ومعرفة الإمام".
أمّا الإمام الكاظم عليه السلام فقد فسّرها في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ بالفهم والعقل.
وعلى أيّ حال، فمهما اختلفت التفسيرات والتسميات للحكمة، فإنّ جميعها مصاديق لها.
2- حدّ الحكمة:
وقد جعلت الروايات الإسلامية حدوداً للحكمة، لا ينبغي التجاوز عنها ولا تعدّيها لئلا تضيع وتذهب من لدن المرء جاء عن الإمام علي عليه السلام: "أول الحكمة ترك اللذات وآخرها مقت الفانيات". فأول علائم الحكم وإماراتها في الإنسان أن يترك اللذات حتّى ولو عن تحامل واستكراه، ويعوّد نفسه على ذلك ليصبح ذلك ملكة راسخة في نفسه، حتّى يصبح ماقتاً للفانيات في هذه الدنيا، فلا تأسره أو يأخذه بريقها، أو يركن إلى شيء منها. وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام حين قال: "حد الحكمة الإعراض عن دار الفناء والتولذه بداء البقاء".
3- مصاديق الحكمة:
جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "من الحكمة أن لا تنازع من فوقك، ولا تستذل من دونك، ولا تتعاطى ما ليس في قدرتك، ولا يخالف لسانك قلبك، ولا قولك فعلك، ولا تتكلّم فيما لا تعلم، ولا تترك الأمر عند الإقبال، وتطلبه عند الإدبار".
4- رأس الحكمة:
بعد أن بيّنا مصاديق الحكمة نأتي إلى بيان رأسها ورأس كلّ شيء الأساس فيه، إذ لا قيمة له دون رأسه. وإذا ما كان هذا هو الحال فلا شكّ أنّ رأس الحكمة سيكون على قدر من الأهمية. وأي شيء أهم وأعظم من لزوم الحق وطاعته ومخالفته؟ قال أمير المؤمنين عليه السلام: "رأس الحكمة لزوم الحق وطاعة الحق" قال الإمام السجّاد عليه السلام: "رأس الحكمة مخافة الله".
5- ما يورث الحكمة:
للحكمة أسباب وشرائط لا بدّ من توفرها في المرء حتّى يعمر قلبه بها وهذه هي:
أ- الزهد في الدنيا: عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: "من زهد في الدنيا، أثبت الله الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه".
ب- غلبة الشهوة: عن الإمام علي عليه السلام قوله: "أغلب الشهوة تكمل لك الحكمة".
ج- محاسن الأخلاق: "قيل للقمان عليه السلام: ألست عبد آل فلان؟ قال: بلى، قيل: فما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما يعنيني وغضّ بصري وكفّ لساني، وعفة طعمتي، فمن نقص عن هذا فهو دوني، ومن زاد عليه فهو فوقي، ومن عمله فهو مثلي".
د- التواضع: عن الإمام الكاظم عليه السلام: "إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل".