آية الله مشكيني
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ (لقمان: 12).
لم يرد اسم لقمان في القرآن الكريم إلا في هذه الآية والآية التي تليها مباشرة، ولذلك فقد سميت السورة باسمه، وفي هذه الآية المباركة ذكرت مجموعة من الأمور:
لقمان، الحكمة، الشكر، الكفران وغيرها. وهنا نشير إلى بعضها بقدر ما يسمح المقام.
* لقمان
كان لقمان عبداً حبشياً، وفي عهد النبي داود عليه السلام ولكنه لم يكن من الأنبياء، وإنما يعتبر رجلاً حكيماً وعالماً وعابداً لله سبحانه وتعالى، ومن هذه الجهة فقد وردت عنه كلمات ونصائح كثيرة في الحكمة ومعرفة الله.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: أما والله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال، ولكنه كان رجلاً قوياً في أمر الله متورعاً في الله ساكتاً مستكيناً عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر... يداوي قلبه بالفكر ويداوي نفسه بالعبر، وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه، فبذلك أوتي الحكمة ومنح العصمة.
ومما ورد في أحوال لقمان في الحديث الشريف أنه لم يكن يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما، ولم يمضِ عنهما حتى يتحابّا، ولم يسمع قولاً قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره، وعمن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين، فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرّتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان، إلى آخر ما أفاده الإمام الصادق عليه السلام.
* الحكمة
الحكمة لغةً بمعنى الإتقان والاستحكام، وقد استعملت في القرآن الكريم في معانٍ متعددة، ففي سورة يونس وصف القرآن بأنه "الكتاب الحكيم"، وفي سورة هود ورد ﴿كتاب أحكمت آياته﴾، كما أن الله تعالى أطلق عليه اسم "الحكيم" في أكثر من موضع، وهنا جاء التعبير الإلهي: ﴿ولقد آتينا لقمان الحكمة﴾ فما معنى الحكمة؟
* الحكمة الإلهية
عندما يستعمل لفظ "الحكمة" بشأن الله تعالى والإنسان والقرآن فهذا يدل على أنها ليست بمعنى واحد في هذه الموارد الثلاثة، فعندما نقرأ في سورة لقمان ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (لقمان: 27)، هذه الحكمة الإلهية ليست بنفس معنى حكمة لقمان. أن معنى كون الله تعالى حكيماً أن مظاهر خلقه أجمع، من الذرات الصغيرة وحتى المجرات الكبيرة وما تحويها قد وضع لها النظام المتقن والمستحكم، وقيضت لها الشرائط اللازمة والضرورية للبقاء والاستمرار ومقاومة عوامل الفساد والاندثار، يقول تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ (النمل: 88).
هذه الآية الكريمة فيها من الإعجاز العلمي ما لا يخفى، لأن القرآن نزل في زمن وفي بيئة ليس لديها أي تصور عن حركة الأرض، بل السائد في ذلك العصر أن الأرض ساكنة لا تتحرك، وظلت المسألة كذلك حتى القرون الوسطى عندما طرحت حركة الأرض من قبل "غاليلو" و"كوبر نيكوس" لكن بمواجهة وإنكار الكنيسة الشديدين- القرآن في هذه الآية يشير إلى حركة الجبال، ولما كانت الجبال ثابتة كالأوتاد في الأرض، فهذا يعني بالطبع أن الأرض متحركة وإنما أشير إلى الجبال خاصة من جهة ضرب المثل حيث ينظر البشر إليها عادة إلى كونها أشد الأشياء وهي ثابتة ومحكمة وعندما يراد وصف شيء ما بأنه ثابت لا يتزلزل فإنه يشبه بالجبال فهذا هو وجه التخصيص.
ومن آثار حركة الأرض ودورانها بروز ظاهرة الليل والنهار، وظاهرة الفصول الأربعة وكثير من الخصائص الأخرى، وكل ذلك يحكي قصة إتقان الصنع الإلهي، ولذا يقول تعالى في سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 164).
النباتات بدورها تؤكد حكاية إتقان الصنع أيضاً، فهي من كونها بذرة حية مغروسة في أحضان التراب وخلال فترات نموها وحتى آخر مراحل النضج والينع كل ذلك يحدث ضمن نظام بديع ومتقن، وليس بعيداً عن ذلك عالم الحشرات فالعلماء والمتخصصون يعلمون أن كل نوع من الحشرات حامل لمجموعة من الأسرار والبدائع التي تحكي عن النظام وإتقان صنع الله تعالى ما لا يبلغ حد الإحصاء "موريس متدلينك" عالم الحشرات المعروف قام بتحقيقات جليلية حول النمل، السوس، العنكبوت والنحل وألّف كتباً حول كل منها، وهكذا فعل علماء آخرون حول حشرات ونباتات أخرى حيث اكتشفوا الكثير من أسرارها،
إلا أنهم لا يزالون يقرون بأن معلومات الإنسان حولها لا تزال ناقصة جداً وأن الكثير الكثير من الحكم والأسرار الموجودة في هذه المخلوقات لا تزال خافية على الإنسان، والحقيقة أن الإنسان كلما ازداد تخصصاً في دراسة مظاهر الخلق ازداد حيرة واندهاشاً لما فيها من الأسرار والحكم، ولذلك نرى أن القرآن يؤكد أن مثل هذه المظاهر آيات توحيدية لـ"أولي الألباب -لقوم يعقلون- لقوم يفقهون -لقوم يعلمون- لقوم يتفكرون..." بينما يقول بشأن الكفار: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين﴾ (يوسف: 103)، ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾َ (يوسف: 105).
إن إتقان الصنع في كل موجود يظهر من خلال إيجاد وتوفير ما يتناسب مع بقاء واستمرارية ذلك الموجود من المكان والبيئة وسائر الشرائط المحيطة به، وهذا مكان هو متوافر للموجودات الكبيرة، كذلك للحشرات الصغيرة مثل النمل وغيرها، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنه قال: "ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه وخلق له السمع والبصر وسوّى له العظم والبشر؟ انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر.. ولو فكرت.. لقضيت من خلقها عجباً ومن وصفها تعباً".
فلو أن الإنسان ينظر إلى مخلوقات الله تعالى نظرة أمير المؤمنين إليها- أي على أنها آيات إلهية فإنه لا بد أن يقف على عظمة الله سبحانه ويخضع على عتبته المقدسة فكم من الموسوعات الضخمة كتبت حول الأسرار والحكم العجيبة حول مخلوقات العالم وكم من الأسرار لا تزال مجهولة للإنسان؟
* الحكمة في مورد القرآن
أما معنى كون القرآن حكيماً هو أن مضامين الآيات الكريمة تنسجم وتتطابق بشكل كامل مع الحقائق والعقل السليم والفطرة الإنسانية، فهداية القرآن لا تنفصل عن الاحتياجات الواقعية والمصالح الفردية والاجتماعية للبشر. ومن هذه الجهة يوصف القرآن بالحكمة كما ورد في سورة الإسراء قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا﴾ (الإسراء: 39).
* الحكمة في مورد الإنسان
عندما تستعمل الحكمة في مورد الإنسان فلها معنى خاص أيضاً، مثلاً عندما نقول "لقمان رجل حكيم" فهذا يعني أن لديه من قوة العقل وحدة الذكاء ما يمكنه من إدراك حقائق الأشياء والمسائل المطروحة حولها بشكل جيد وصحيح، وعندما يتحدث عنها فإنه يستطيع أن يعبر بشكل سليم ومطابق للواقع بحيث يضع الكلام المناسب في المكان المناسب، لذلك نجد أن القرآن يؤكد ضرورة تعليم الحكمة. وهذا بدوره دليل على أهميتها، كما أنه يطلق على "المستقلات العقلية" الحكمة لارتباطها بالواقعيات.
ولتوضيح المسألة نطرح هذا المثال: يعتبر عقل الإنسان مثل بلد كبير، لديه صادرات وواردات، واردات العقل إدراكه وفهمه للحوادث والوقائع والمطالب العلمية وغيرها. وصادراته الأفكار والآراء التي تصدر عنه قولاً أو عملاً، وذلك على هيئة ابتكار أو اختراع أو تأليف أو وعظ وغير ذلك. ومن هنا تعلم العلاقة والارتباط الشديد بين واردات العقل وصادراته.
* حكمة لقمان
﴿وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم﴾ من كلمات الحكمة التي يعلمنا إياها لقمان في القرآن: لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، بالطبع هناك حكم كثيرة منقولة عنه في هذه السورة المباركة، لكن على رأس هذه المسائل وأولها على الإطلاق: التوحيد، ووجه الحكمة في كلمة لقمان هذه أن الشرك له آثاره السلبية على الفرد والمجتمع معاً. فهو ظلم للفرد نفسه (أي نفس المشرك) كما أنه ظلم للمجتمع، لأن المشرك مصيره في الدنيا والآخرة إلى خسران وضياع، وكذلك أفعاله وسلوكياته المنبعثة من عقيدة الشرك سوف تؤدي بالمجتمع إلى الضياع والفساد، كما أنه عندما يدعو المشرك موجوداً ضعيفاً لا حول ولا قوة له شريكاً لله فهذا ظلم لله أيضاً، إذاً، الشرك ظلم من جهات متعددة ولذلك فهو ظلم عظيم كما عبر عنه لقمان الحكيم.
في علم الكلام يقسم الشرك إلى ثلاثة أقسام:
1- الشرك في الذات بمعنى أن المشرك يعتقد بوجود شريك لله سبحانه وتعالى يماثله في الوجود والصفات الكمالية.
2- الشرك في الصفات بمعنى أن المشرك يعتبر أن الصفات الذاتية لله ثابتة له ومغايرة للذات فليست الصفات عنده عين الذات.
3- الشرك في الأفعال وهو عبارة عن الاعتقاد بوجود شريك لله عزَّ وجلَّ في التصرف وتدبير أمور العالم.
التوحيد في المقابل ينقسم إلى ثلاثة أقسام أيضاً: أي التوحيد الذاتي، التوحيد الصفاتي، والتوحيد الأفعالي، وبناءً عليه فالموحد هو الذي يؤمن بهذه الأقسام الثلاثة من التوحيد، نقرأ في سورة يونس، ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ (يونس، 3).
وفيها إشارة إلى أن مدبر العالم هو نفسه خالقه وموجده وهو الله سبحانه وتعالى وعلى هذا الأساس، فقول لقمان لابنه "لا تشرك بالله" يقتضي نفي جميع أنواع الشرك الثلاثة المذكورة.