بعد أن عرفنا في الحلقة الماضية أهمية الاعتقاد بالحياة الآخرة وأن نداء الفطرة الصافية والضمير الحي يدعونا إلى ذلك ننتقل في هذه الحلقة إلى الأدلة والبراهين النقلية والعقلية التي تؤكد وجود المعاد والحياة بعد الموت.
1: إخبار النبي
إن الذي يؤمن بالأنبياء والرسل ويؤمن بعصمتهم في القول والفعل، لا بد أن يصدق بكل ما جاؤوا به ودعوا الناس إليه.
ونحن بعدما آمنا بنبوة سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه مرسل من عند الله من خلال ما زوده الله تعالى من المعاجز الكثيرة وعلى رأسها معجزته الخالدة القرآن الكريم، وجب علينا أن نؤمن بكل ما يدعونا إليه هذا الرسول الكريم.
وقد وردت عنه الأخبار الكثيرة في هذا الشأن ولعل أبرزها على الإطلاق ما ورد عنه في حادثة الإسراء والمعراج حيث أخبر أنه عرج به إلى السماء ورأى المؤمنين يتنعمون في الجنة والكافرين يتعذبون في النار.
هذا فضلاً عن صحيفته النورانية القرآن الكريم المليئة بالآيات التي تتحدث عن الحياة بعد الموت والحساب والنشور قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ . أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ، بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ "القيامة 1 - 5"، فهذا دليل نقلي على إثبات القيامة يعتمد على الإيمان بالنبوة.
2: الإيمان بالعدل الإلهي
توصلنا في الدروس السابقة إلى إثبات الصفات الكمالية لله تعالى وأن الله سبحانه عادل لأن الظلم ضعف ونقص وهو منزه عن ذلك والعادل هو الذي يثيب المطيع ويجزي المحسن والصالح أحسن الجزاء، أما العاصي والفاسق والظالم فليس له إلا العقاب الشديد.
ونحن نرى في هذه الدنيا، أن المؤمن والفاسق، الصالح والطالح، المحسن والمسيء، الظالم والمظلوم، كلّهم يموتون في أغلب الأحيان لا ينال المؤمن والصالح والمحسن والمظلوم جزاءهم الحسن في الدنيا كما أن الفاسق والطالح والمسيء والظالم لا يأخذون قسطهم من العقاب أيضاً.
ولعله من المتعذر ذلك في ظل ضوابط وحدود هذا العالم الدنيوي المادي لماذا؟
لنفرض أن إنساناً قتل شخصاً آخر ظلماً وعدواناً فماذا يكون حكمه العادل؟
الجواب: الإعدام قطعاً.
ولكن إذا قتل هذا الإنسان عشرة أشخاص فماذا يأمرنا العقل أو نفعل؟
إن أقصى ما يمكننا فعله بحقه من القصاص والعقاب هو القتل والإعدام فهل هذا منتهى العدل؟ إن محدودية الدنيا لا تقبل العدل الكامل من حيث العقاب، ولا من حيث الثواب أيضاً فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب أمير المؤمنين عليه السلام أنه لئن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت.
أي أن هذا العمل الذي هو هداية إنسان واحد أفضل من الأرض وما عليها، فما هو ثواب من هدى ملايين الناس؟ وما هو ثواب الصالحين؟
إن الدنيا أضيق بكثير وأقل من أن تكون ثواباً لمثل هؤلاء.
ولذلك فإن عدل الله تعالى يقتضى وجود حياة أخرى يعاقب فيها الظالم والكافر ويثاب فيها المظلوم والمؤمن.
وهذا من أوضح الأدلة العقلية وأقواها في إثبات المعاد.
2: الإيمان بالحكمة الإلهية
إن الله تعالى حكيم، لأن الحكمة كمال وهو جل جلاله يتصف بكل الصفات الكمالية.
والحكيم هو الذي يكون لأفعاله أهداف سامية وغايات عالية، ولا يفعل أي شيء لهواً وعبثاً.
والله تعالى خلق هذا العالم البديع وأتقن نظامه وأحسن تدبيره ثم خلق الإنسان ليحيا على هذه الأرض ووهب له من النعم والآلاء ما لا يمكن حصره، قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ "النحل/18".
فما هو الهدف من خلق العالم والإنسان يا ترى؟
هل هو الفناء والدمار والعدم والخراب؟ وهل يعتبر حكيماً من يبدع هذه المخلوقات العجيبة الرائعة ثم يجعل مصيرها جميعاً إلى الزوال؟
هل رأيت فلاحاً يعتني عناية فائقة بزرعه يكد في حرثه ويشقى في ريّه، ويعمل على حفظه من الأدواء والأفات فإذا بلغ حصاده صيّره للتلف والهلاك؟ أن أي عاقل يحكم على هذا الفلاح أنه أحمق بل مجنون.
إن الله سبحانه وهو الحكيم المطلق لا يمكن أن يخلق هذا العالم العظيم ثم يجعل مصيره الفناء والزوال، ذلك ظن الذين كفروا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ "المؤمنون/115".
ولذلك فلا بد من وجود حياة أخرى وراء هذه الحياة الدنيا تكون أرقى وأسمى بكثير منها حتى تستحق أن تكون هدفاً وغاية فالإنسان ينتقل من هذه الحياة الفانية إلى حياة أبدية لا موت فيها ولا فناء ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ "العنكبوت/64".
* دليل الرحمة
إن الإيمان بالرحمة الإلهية يؤدي بالضرورة إلى الإيمان بالحياة الآخرة. فالله تعالى رحيم لأنه متصف بكل صفات الجلال والجمال ومنزه عن كل نقص وعيب والرحمة الإلهية ليست صفة عاطفية أو انفعالية كما نراها في الإنسان الناقص بل أن حقيقتها الخالصة منزهة عن ذلك لتليق بمقام الألوهية. ولذلك قالوا في تعريفها، الرحمة هي رفع حاجة كل محتاج وإعطاء الكمال اللائق لكل موجود له قابلية واستعداد لذلك الكمال.
وحيث إن الإنسان له قابلية الحياة الأبدية السعيدة، وهو يأمل دائماً أن يصل إليها، فلازم الرحمة الإلهية اللامتناهية إعطاء هذا الكمال اللائق للإنسان، وبما أن الموت والفناء ملازم لهذه الحياة الدنيا، فلا بد من وجود حياة أخرى تكون خالدة وأبدية.
* برهان الشوق إلى الحياة الخالدة
ومن الأدلة على الحياة الآخرة، ما أورده آية الله الآملي في كتابه "المبدأ والمعاد" تحت عنوان برهان الشوق إلى الحياة الخالدة، فيقول:
إن كل إنسان يجد في أعماق ذاته حباً للحياة الخالدة والدائمة، يتألم من كل زوال وفناء ويهرب منه، ولا يشعر أبداً بالملل من أصل الحياة وخلودها.
أما ذاك الملل الذي يشعر به أحياناً فليس هو من أصل الحياة بل من الحوادث المؤلمة التي إذا زالت وارتفعت وتبدلت بالأفراح زال معها ذلك الملل.
إذاً فأصل الشوق إلى الحياة الخالدة هو المحبوب والمطلوب النهائي لكل إنسان "كالعطش الموجود في كل النباتات والحيوانات والناس"، ولأنه ة يوجد شيء باطل وعبثي في عالم التكوين والحقيقة فلا بد إذاً من وجود حياة دائمة ومصونة من الموت فلو لك تكن هذه الحياة موجودة في عالم الخلقة لكان هذا الشوق عبثاً.
لأنه بحكم ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ "آل عمران/185"، وبحكم ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ "الأنبياء/34" فليس من الممكن وجود حياة خالدة ومصونة من الموت في الدنيا، ولإبقاء لأي إنسان في هذا العالم وما يسمى بماء الحياة كناية عن الإيمان والمعرفة التي تكون من نصيب المؤمن العارف، فهذا الماء لا يهطل من السماء ولا يصعد من الأرض. لهذا فإن وجود عالم مصون من الزوال ومحفوظ من الموت ووجود القيامة التي ليس بعدها موت ضروري وحتمي.