اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

الأُبوَّة وصناعة الإنسان: نظرة إسلاميَّة إلى دور الأب في الأسرة

الشيخ محمد زراقط



عندما نتحدّث عن الأب في الإسلام ومن وجهة نظر إسلاميّة يمكن أن نتحدّث من أكثر من جهة، فتارة يمكن الحديث عن حقوق الآباء على الأبناء وأخرى بالعكس. ولا يمكن في مثل هذه المقالة الموجزة استيفاء الحديث عن جميع جوانب الرؤية الإسلامية إلى الأب في الإسلام؛ ولذلك سوف أكتفي ببعض الإشارات التي تومئ إليها آيات القرآن الكريم وبعض الروايات الشريفة الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام؛ لأكشف عن بعض دلالاتها للاهتداء بهديها لرسم معالم النظرة الإسلامية إلى دور الأب في حياة الطفل على وجه التحديد.

الأبوّة حقّ للابن وواجب
يبدو أنّ الحقّ والواجب مفهومان يهتمّ الإسلام بهما بشكل متوازٍ ومتوازنٍ، فقلّما تجد حقاً لا يوجد إلى جانبه واجب. ومن هنا، لا تبدو إشكاليّة التمييز بين الحقوق والواجبات مطروحة في الفكر التشريعي الإسلامي.  ومن الحالات التي يمزج فيها الإسلام بين الحقوق والواجبات ويقدمهما معاً حالة الأبوّة والبنوّة، فعندما ننظر إلى الأبوّة من جهة الطفل نجد أنّها في الإسلام حقّ للطفل لا يجوز حرمانه منها تحت أيّ عنوان من العناوين، وهذا ما تدلّ عليه الآية الكريمة: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ... (الأحزاب: 5).

وعندما نتأمل في هذه الآية نجد أنّها تعدّ الانتساب إلى الأب جزءاً من حقوق الطفل التي لا يجوز حرمانه منها بنسبته إلى غير أبيه مهما كان دور غير الأب في تربيته وتنشئته؛ ولكنّ ذلك - في الوقت نفسه - لا يجعل الولد مرهوناً بأبيه، بحيث يفقد هويته الإنسانيّة إذا لم يُعلَم أبوه، فهو أخ في الدين على حدّ تعبير الآية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الأبوّة واجبٌ من الواجبات الاجتماعيّة التي على الإنسان أن يؤدّيها تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، فلا ينبغي للإنسان أن يُعرِض عن القيام بهذا الدور المطلوب منه؛ ولذلك نجد كثيراً من التوصيات الإسلاميّة التي تدعو الناس إلى تحمّل هذه المسؤوليّة بالسعي إلى الإنجاب من خلال الزواج وعدم الإعراض عنه، وبالحفاظ على الأبناء بعد ولادتهم وعدم التفريط بهم وإنهاء حياتهم تحت أيّ عنوان من العناوين التي يمكن أن تسوّل لبعض الناس الإقدام على التخلّي عن الولد الذي أتَوْا به إلى الدنيا. ويتّضح ذلك من خلال تحريم الإسلام الإجهاض، وتحريمه وأد البنات، وتحريمه قتل الأولاد خشية الفقر، أو تقديمهم أضاحي للأصنام، وذلك في الآيات الآتية على الترتيب:

أ - ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم منْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (الأنعام: 15). وهذه الآية تشمل حالة القتل قبل الولادة وبعدها.
ب - ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (النحل: 58 - 59 ).
جـ - ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا (الإسراء: 31).
د - ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ (الأنعام: 137).

هذا من جهة الأمر الإسلامي بالحفاظ على الولد بعد تكوّنه ولو قبل خروجه إلى الدنيا. وأمّا الدعوة إلى المبادرة إلى الإنجاب وتحمّل مسؤولية الأبوّة تجاه الولد وتجاه المجتمع فهي من الأمور الواضحة في الشريعة الإسلامية. وأهمّ ما يدلّ عليها الدعوة إلى الزواج. وبين الزواج والإنجاب وتحمّل مسؤولية الأبوّة تلازم واضح. فقد ورد في الرواية المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "من سنّتي التزويج، فمن رغب عن سنّتي فليس مني"(1)، و"ما بُنِي بِنَاءٌ في الإسلام أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من التزويج"(2). وفي بعض الروايات ما يدعو إلى الإنجاب بشكل مباشر، كما في الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله: "اطلبوا الولدَ فإنّي مُكاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ"(3).

* الأبوّة الصالحة ولوازمها
إذن الأبوّة حق وواجب، وللقيام بأعباء هذا الواجب آليات وقواعد، وسوف أحاول في ما يأتي شرح النظرة الإسلامية إلى قضيّة الأبوّة من خلال الدعوة الإسلاميّة إلى الاهتمام بتربية الطفل عبر ثلاث نقاط، هي:
أ- التربية قبل الولادة.
ب- التربية بعد الولادة خلال حياة الأب.
ج- التربية المستدامة بعد موت الأب.
وبهذا التقسيم نجد أنّ دور الأب محوريّ في حياة الطفل، وأنّ الأبوّة مسيرة مستمرة من الرعاية والاهتمام، تبدأ قبل ولادة الطفل ولا تنتهي بانتهاء حياة الأب.

أ- تربية الولد قبل ولادته

يدعو الإسلام إلى الاهتمام البالغ والعناية المركزّة في مجال اختيار الوعاء الحاضن لهذا الولد الذي سوف يأتي، قبل أن يأتي، بإعداد العدّة وتمهيد كل المقدمات التي تساعد على نشأة سليمة للطفل في بيئة أُسَرِيَّة دافئة خاليةٍ مَا أمكَن من المنغِّصات الروحيّة أوّلاً والجسديّة ثانياً. وأشير بهذا الكلام إلى التوصيات والتعاليم الإسلامية التي تدعو إلى التروّي في اختيار شريكة الحياة والعنصر الثاني في تكوين الولد ألا وهي الزوجة التي سوف تضحى أماً. والنصوص الإسلامية في هذا المجال كثيرة، أكتفي بالإشارة إلى أبرزها، وأخص بالذكر منها ما له صلة بالولد المستقبلي، ومن ذلك الرواية المنقولة عن النبيّ صلى الله عليه وآله: "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ" (4)، وفي رواية أخرى: "تَخَيَّرُوا لنُطَفِكُم فَإنَّ الخَالَ أَحَدُ الضَّجِيعَيْن"(5)، وفي رواية ثالثة: "تَزَوَّجُوا في الحِجْرِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ العِرْقَ دَسَّاسٌ"(6).

ب- التربية بعد الولادة خلال حياة الأب

في هذه المرحلة يتولّى الأب رعاية الطفل وتربيته في كلّ أبعاد حياته تقريباً. فالطفل في هذه المرحلة أحوجُ ما يكون إلى أبيه. والتربية في هذه المرحلة عمليّة معقّدة تحكمها عشرات القواعد والمبادئ التي لا يمكننا سوى الإشارة إلى بعض أسسها وأقسامها.

1- التربية البدنية
يأخذ الأب على عاتقه عملية التربية البدنية للطفل، من خلال تأمين حاجاته الأولية التي تتوقف عليها حياة الطفل، كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك، مما يسمّى في الفقه الإسلامي النفقة. والنفقة من وجهة نظر إسلامية حقّ للطفل وواجب على الأب، لا يجوز له أن يتهرّب منها ما دام قادراً عليها. ولا تنحصر التوصيات الإسلامية بالحدّ الواجب من الإنفاق، بل تدعو إلى التوسعة؛ أي الزيادة على الحدّ الواجب، ومن الروايات الواردة في هذا المجال، ما يروى عن الإمام الرضا عليه السلام: "صاحب النعمة يجب عليه التوسعة على عياله"(7)

2- التربية النفسيّة والروحيّة
والطفل من وجهة نظر إسلاميّة ليس مجرّد فمٍ مفتوح يطلب أن يُملأ بالطعام، بل يحاول الإسلام لفت نظر الأب بشكل دائم إلى أنّ للولد شخصيته المستقلة التي لا يجوز انتهاكها، بل يجب على الأب دفعها نحو التشكّل تحت رعايته، وليس صياغتها وفق القوالب التي يرغب الأب بها كيفما كانت. وتبدأ التوصيات التي تصبّ في هذا الإطار من اختيار الاسم، إلى تزويجه: "من حقّ الولد على الوالد ثلاثة: يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوّجه إذا بلغ" (8). وفي الإطار نفسه، تقع الدعوة إلى ترك الطفل يلعب مدة سبع سنين كما هو مشهور في الحديث المنسوب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله. وفي إطار التربية النفسية والروحية على الأب أن يتعهد روح الطفل ونفسه بالعناية والرعاية، ففي الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله: "من قبّل ولدَه كتبَ الله له حسنةً، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة"(9)، وأن يهتم بنقل القيم الدينية الصالحة إليه، بشتّى الوسائل المناسبة.

3- وسائل نقل القيم الروحيّة
ووسائل نقل القيم متعدّدة، يجمعها عنوانان هما: التعليم المباشر عبر الوعظ والإرشاد، والتعليم غير المباشر. ومن نماذج الصنف الأول التي قدمها القرآن، نموذج لقمان الحكيم، الذي يعلّم ابنه قيم المعتقد عندما ينهاه عن الشرك، ويعلمه قيم السلوك؛ فينهاه عن التكبّر ورفع الصوت: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴿ ... وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (لقمان: 13/18 - 19). وأما الأسلوب الثاني فهو القدوة التي أكدها الإسلام، ولست أبالغ إذا قلت، إنّها الأهم والأكثر تأثيراً، ولأهميّتها وعظم تأثيرها نجد أنّ القرآن الكريم يهتمّ بالحديث عن الاقتداء والتقليد الإيجابي والسلبي؛ لمحاربة التقليد والاقتداء الأعمى، ولفتح الأعين على اختيار أحسن القدوات بدءاً من الأنبياء، ليصل إلى الآباء الصالحين الذين يحسن الاقتداء بهم. ويكفي للدلالة على أهمية التعليم بالتلقين غير المباشر أنّه سبحانه وتعالى قدّم لنا أكمل نموذج بشريّ وهو النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، عندما قال في كتابه الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب:21).  ويحسن بنا الإشارة إلى ضرورة عدم اليأس من الوصول إلى الغايات المرجوّة في التربية مهما بلغت المصاعب، ومهما قست الظروف، فعلى الأب أن يصرّ على النجاح في مسعاه إلى الحدود القصوى، فهذا هو نبيّ الله نوح عليه السلام بقي يلاحق ابنه ويسعى في هدايته إلى أن حال بينهما الموج وكان من المُغْرَقين.

ج- التربية المستدامة بعد موت الأب
والمرحلة الأخيرة في عمليّة التربية هي التربية والمتابعة بعد موت الأب. وقد يبدو هذا الأمر مُسْتغرَباً، إذ كيف يربّي الإنسان ابنه وهو ميّت؟ ولكي لا أطيل أكتفي بالإشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: إنّ التربية التي تستمرّ على مدى المرحلتين الأوليين تترك آثارها في المستقبل، وهي في حقيقتها استمرار لعمل الأب ومتابعة لمسيرته، وتكملة لعمله. وليس غريباً في مفاهيم الشريعة وقيمها أن يستمرّ العمل حتى بعد الوفاة، فتأمّل في دلالات حديث النبي صلى الله عليه وآله؛ لتعرف إمكانية استمرار العمل بعد الموت: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به بعد موته، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له" (10). إذن يمكن للمرء أن يتابع العمل بعد الموت، والتربية الهادية التي تبقى آثارها بعد موت الإنسان من أفضل الصدقات الجارية التي تضاف إلى رصيد الإنسان وترفع من ميزان حسناته.

الأمر الثاني: هو بعض التدابير التي يدعو إليها الإسلام، لكي يحول دون ترتّب الآثار الضارّة على مستقبل الولد، وأذكر منها قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (النساء:9). وهذه الآية اختلف في تفسيرها والمراد منها، إلا أنّ الدلالة الواضحة لها هي أنّ على الإنسان أن يخشى غائلة بعض أعماله، ليس على نفسه، بل على ذريته، وبالتالي هي تدعو الإنسان قبل أن يقدم على قول أو عمل إلى أن يفكر في أثر هذا العمل على ذريته.


(1) مستدرك الوسائل، المحدث النوري، ج 14، ص 152.
(2) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 383.
(3) تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحراني، ص 105.
(4) ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 2، ص 1183.
(5) عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 1، ص 259.
(6) ميزان الحكمة، م. س، ج 2، ص 1183.
(7) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 21، ص 540.
(8) وسائل الشيعة، م. س، ج 21، ص 482.
(9) عوالي اللآلي، م. س، ج 3، ص 283.
(10) م.ن.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع