مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

المسجد بيت الله.. وعباده


الشيخ يوسف سرور

﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (الجن:18). تكتسي البيوت أهميّتها من خلال الوظيفة التي تؤدّيها، وتحظى بمكانتها في وجدان الشعوب لما لها من دخالة في ثقافتها ووعيها ومعتقداتها وقيمها، وأحياناً، أعرافها وتقاليدها. وتكتسب أهميتها بسبب الدور الذي يمكن أن تلعبه في مسيرة الجماعة والفرد، وما يمكن أن تسهم به في سبيل بلوغ أهداف الفرد والجماعة على حدٍّ سواء. وأحياناً كثيرة، تحتل منزلتها من خلال انتسابها إلى جهة محترمة وجليلة. وإذا نظرنا إلى المسجد، نجد أنّ كلّ هذه العوامل المذكورة تجتمع فيه، من الوظيفة والدور اللذين يلعبهما، إلى الجهة التي ينتسب إليها والتي هي مصدر الوجود ومفيضهُ إلى كل خلقه، الذي جعل الإنسان دُرّة تاجه.

موضع الحاجات كلها
وقد جعل الله سبحانه تحصيل الكمال النفسي والحقيقي ملازماً لطاعته، بل جعله نفس الطاعة، حيث هي معيار القرب والبعد عنه تعالى. وقد حثّ عباده على الاجتهاد والسعي في ذلك والتزام أقرب الطرق إلى ذلك، وقد يسّرها تعالى لعباده، بما ينفي كل الأعذار لشدّة إتاحتها وتوفُّرها، وجعل أكمل مراتب العبادات فيها. من هنا، فقد ربّى الإسلام أبناءه وأتباعه على التطهُّر من كلِّ نجاسة في الثوب والبدن عند إرادة قصد بيتٍ من بيوت الله، فقد ورد في الحديث عن الصادق عليه السلام: "إذا بلغت باب المسجد، فاعلم أنك قصدت باب بيت ملك عظيم لا يطأ بساطه إلا المطهَّرون"(1). وطلب منهم أيضاً أنّ يطهّروا قلوبهم من كلّ زَيغ، وألسنتهم من كلّ زورٍ، فيقول الإمام عليه السلام في نفس الحديث: "... ولا يُؤذَن بمجالسة مجلسه إلا الصّدّيقون"(2) ويقول عليه السلام في محل آخر في هذا الصدد: "... فإنّه لا يقبل إلا الأطْهَر والأخْلَص"(3).

ما نراه هنا، هو أنّ الله سبحانه يدفع باتجاه التخلّص من القذارات الظاهرية من خلال الارتباط بالمسجد، ليأتي المرء بأحسن صورة، نظيف الظاهر. وكذلك، يدفع باتجاه التخلّص من أعباء الخصال الذميمة والأخلاق السيئة، وليتحلّى بالأخلاق الفاضلة والإخلاص لله تعالى، ليكون فيها نقيّ الباطن، ولينعكس ذلك على لسانه، ليكون نصيراً للحقّ بالسلوك والموقف. وبذلك، تكتمل شمائل الفرد المسلم في الدنيا بنقاء الظاهر والباطن وصدق اللسان. ولا يكتفي الارتباط بالمسجد بالاهتمام بالبعد الفردي عند عباد الله، بل إنّ أصل بناء المسجد وفلسفة وجوده تعني انخراط جماعة المسلمين في جوٍّ قدسيٍّ، يدفع باتجاه تحصين القلوب من الغلّ وحبّ الانتقام والحسد والحقد وظلامة الناس، من خلال الارتباط بالرحمة الإلهية التي وَسِعَت كلَّ شيء، التي جعلها الله عنواناً لعلاقته بعباده، وجعل عنوان الطهر في القلوب، هو التنزّه عن كلِّ تلك العناوين التي تفرّق بين العباد، والتخلّق بتلك الفضائل التي تجمع القلوب على الحبّ والودّ وإرادة الخير للآخرين، وتمنع الألسنة الصادقة عن قول الزور والبهتان والنميمة والغيبة وكثرة الكلام الذي لا طائل منه؛ فإنَّ "كثرة الكلام في المسجد تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "كلّ جلوس في المسجد لغوٌ إلا ثلاثة: قراءة مُصلٍّ، أو ذِكْر الله، أو سائلٌ عن علم"(4).

عندما يبتعد المسلم عن تناول أخيه بما يكره، ويتجنّب الوقيعة بين الإخوة، ويلتزم نصرة الحق ومواجهة الباطل، ويطرد من قلبه كلَّ مشاعر البغضاء، ويُحِلّ محلّها مشاعر الرحمة والمحبّة والصفح والتسامح، كل ذلك في سبيل تأمين نصاب قبوله في بيتٍ نَسَبه الله إلى نفسه، ليكون صدّيقاً، مطهّراً، خالصاً، -عند ذلك- ينخرط المسلمون تحت سقف المسجد في امتثال حقيقيٍّ لإرادة الكمال، وانسياق صحّيٍّ نحو إرادة الله تعالى، ويمكن حينها أنْ يحتلّ الفرد مكانته في سُلّم الخليقة، بحيث تتجلّى صفات الكمال في جميع أبعاد شخصيته، على مستوى الظاهر والباطن واللسان. ويصبح حينها منسجماً مع ذاته حيث يصدّق ظاهرُه باطنَه، ويصف لسانه الصدق.

بيت الوحدة الإسلامية
ويمكن أن نفهم شدّة حرص الشريعة الإسلامية على تمتين علاقة المسلم بالمسجد، من خلال الثمار التي يحصّلها عندما يكون في هذا البيت العظيم، عندما تتلاقى الإرادات على التجسيد الحقيقيّ للأخوّة الإسلامية، وعلى تنزيه اللسان إلا عن قول الحق، وتجنيب الأذن عن سماع غير الحكمة والآية المحكمة، والابتعاد عن الرفقة سوى أخٍ في الله، وعدم الاشتغال بشيء سوى بفريضة واجبة أو سنّة تقرّب من الحقّ تعالى. ورد عن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أدمن إلى المسجد، أصاب الخصال الثماني:
1- آية محكمة.
2- أو فريضة مستعملة.
3- أو سنّة قائمة.
4- أو علم مستطرف.
5- أو أخٌ مستفاد.
6- أو كلمة تدله على هدىً.
7- أو ترده عن ردى.
8- وترك الذنب خشية أو حياءً"(5).
وورد مثل ذلك عن أمير المؤمنين(6) عليه السلام.

وفي مثل ذلك إلفات للمسلمين إلى أنّ موارد الحاجات الروحية والنفسية التي تعتمل في باطن أصحابها، إنما يجدون إشباعها وتلبيتها في المسجد. بل أكثر من ذلك، فإنّ هناك توجيهاً للمسلمين وتنبيهاً إلى أنّ أحد أهم مظانِّ استجابة الدعاء في طلب الحاجات الأخروية والدنيوية -حتى- هو المسجد. وهذا ما نراه في بعض أعظم مظاهر انصهار النفوس واندماج القلوب –على اختلاف حاجاتها ورغباتها، وتنوّع ألسنتها وأعراقها وألوانها- في وحدة مذهلة قلّ أن ترى لها نظيراً، في اعتصام بحبل الله، تلهج بالذكر، وتترنّم بأصناف الأدعية، من طلب الرحمة والاعتذار والرغبة بالصّفح والمغفرة، إلى طلب القرب، إلى الحاجات الدنيوية، وطلب دفع بلاءات الدنيا والآخرة. ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا يرجع صاحب المسجد بأقلَّ من إحدى ثلاث:
1- إما دعاء يدعو به يُدخله الله به الجنة.
2- وإما دعاء يدعو به ليصرف به عنه بلاء الدنيا.
3- وإما أخ مستفاد في الله عز وجل"(7).

بيت التوحيد
بَيْدَ أنّ الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتخطاه ليجعل في نفس السير إلى المسجد بعيداً عن الغايات الأخرى المذكورة آنفاً حطّاً لأوزار الذنوب عن كاهل العبد، ورفعاً للدرجات. ومن أدركته منيّته على مثل تلك الحال كفله الله سبحانه حتى يُنشر كتابه بين يديه. ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "مَنْ مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة، كان له بكل خطوة سبعون ألف حسنة، ويُرفع له من الدرجات مثل ذلك. وإن مات على ذلك وكّل الله به سبعين ألف ملك يعودونه في قبره، ويؤنسونه في وحدته، ويستغفرون له حتى يُبعث"(8).

لا تستغرب فإنّ الله -لشدّة حبّه لعباده- يريد أن يجعل أوثق البيوت علاقةً بالمؤمن بيتَه تعالى، فجعله منبع الفيض، وبحراً زاخراً بالبركات، وغيثَ القلوب يغسلها من غبار البعد ويجلو عنها صدأ الجفاء، ويخلّصها من تبعات الذنوب، ليبعث صاحبها نجمةً درّية تتلألأ لتجذب أهل السماء إليها ليتعهدوها حُبّاً وامتناناً، فهو يهدي الحائرين كما تهدي نجوم السماء أهل الأرض. ويحسب الله تعالى بيته كما يحسب شهر رمضان، فجعل من يدخل بيته لا يطلب غيره، كمن يستقبل شهر رمضان مُحرِماً إلى ربه. يضاعف الله الأعمال لعباده ويكتب المقيم في المسجد -على غير معصية- عابداً. عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا أبا ذر، إنّ الله تعالى يعطيك ما دمت جالساً في المسجد بكل نفسٍ تنفستَ درجة في الجنة، وتصلّي عليك الملائكة، وتُكتبُ لك بكل نَفَس تنفستَ فيه عشرُ حسنات، وتمحى عنك عشرُ سيئات"(9).

نفهم من كلِّ ما تقدَّم أنّ الله تعالى يريد لنا -أفراداً وجماعات- أن ندمن المسجد، ونعشق طريقه، ونلوذ به ماكثين، في طلبٍ وانجذاب إلى صاحبه، وإلى ما يقرّب منه، ويعبّر عن الاتصال به والارتباط به، وحده لا شريك له في ذلك، لنعبّر من خلال ذلك عن أننا عبادٌ لله تعالى، ولنكون جماعة التوحيد، والأمة التي عناها في كتابه المجيد بخير الأمم منجذبة نحو أصل واحد، ويجمعها مسار واحد إلى هدف واحد وغاية معنى واحدة، وهذا غاية قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(الجن:18)


(1) بحار الأنوار، ج23، ص373، ح40.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق، ج77، ص86، ح3.
(5) المصادر السابق، ج84، ص3، ح73.
(6) أمالي الصدوق، ص318، ح16.
(7) أمالي الطوسي، ص47، ح57.
(8) بحار الأنوار، ج76، ص336، ح1.
(9) المصدر السابق، ج77، ص80، ح3.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع