إنّ الأهواء النفسية هي الطريق التي تؤدي بالإنسان إلى
ارتكاب المعاصي. ولا يذهبنّ بكم التصوّر إلى أنّ ما تشتهيه الأنفس والذنوب متلازمان
ولا يمكن انفكاكهما عن بعضهما البعض، إذ يدخل بعض ما تشتهيه النفس في الحلال، إلا
أن إلقاء حبل النفس على الغارب وتركها أسيرة لمشتهياتها هو الذي عبّر عنه أمير
المؤمنين عليه السلام بقوله في نهج البلاغة: (حمل عليها أهلها)(1). فكما يحمل
الإنسان على الصعبة التي تقتحم به في المهاوي، فإن أهواء النفس تقود الإنسان نحو
الذنوب. وهذا المعنى هو الذي ترمي إليه الآية الشريفة التي تقول:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيرًا﴾
(النساء:10). فإن اللذة الظاهرية التي تبدو في هذه الحياة الدنيا من أكل مال اليتيم،
تتجسد على حقيقتها عذاباً في الحياة الحقيقية حيث ترتفع الحجب عن الإنسان وتمتثل
أمامه:
﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا
أَسْلَفَتْ﴾
(يونس:30).
* وعُرضوا على ربك صفاً:
فعلينا أن لا نغفل عن يوم القيامة، فإنه يوم عظيم يتعين علينا أن نخافه ونخشاه، حيث
قال تعالى عنه:
﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا
الْحَقُّ﴾
(الشورى:18). فلا بد من الوجل من ذلك اليوم وجعله نصب أعيننا، لأنّ يوم
القيامة هو اليوم الذي نعرض فيه على الله
﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾
(الكهف:38)، حيث يَمْثُل الإنسان على حقيقته وسريرته وملكاته النفسية
الراسخة أمام الله تعالى. وإنّ الله وإنْ كان مطّلعاً على سريرتنا في هذه الدنيا،
إلا أن القيامة موضع انعدام جميع الحجب كي نطّلع نحن على حقيقتنا ونقوم بإدانة
أنفسنا بأنفسنا، حيث لا مجال لاختلاق المعاذير والأكاذيب، حيث يغدو اللسان المهذار
واللبق في هذه الحياة أبكمَ أخرسَ يوم القيام:
﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا
يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾
(المرسلات:35-36). وعندها، يأتي دور الباطن والملكات وسائر الأعضاء
والجوارح فتأخذ بالتكلم والإقرار بما اقترفه الإنسان وأضمره من أنواع الحقد والحسد
وسوء الظن:
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ
وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
(يس:65).
* بين البشارة والوعيد:
إنّ الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة تحدث هزّة عنيفة في كيان الإنسان. وإني أقترح
أن يقوم كل واحد منا بدراسة هذه الآيات، لأننا في أمس الحاجة إليها، فمنها ما فيه
البشارة ومنها ما فيه وعيد ونذير، وكلا النوعين يؤدّي مفعوله في إحداث تلك الهزة،
حيث تقوم آيات البشارة بحث الإنسان على السعي والجد في العمل، وتقوم آيات الوعيد
بتأثيرها في بثّ القشعريرة في النفوس وإذابة الجلود:
﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ
لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ *
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ﴾
(المعارج: 11-14). ولكن هيهات أن تكون له النجاة بعد إعراضه في هذه الدنيا
﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً
لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾
(المعارج: 15-18). يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة
الثمالي في التخويف من يوم القيامة: "أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً
ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني، وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني،
لكل امرئٍ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة"(2).
* الصراط قنطرة العبودية:
إنّ أصحاب الوجوه الضاحكة المستبشرة هم الذين تمكنوا من اجتياز الصراط الذي هو
عبارة عن قنطرة العبودية والتقوى
﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ
مُّسْتَقِيمٌ﴾
(يس: 61). فإننا لو تمكنّا من اجتياز هذه القنطرة في هذه الحياة الدنيا،
سيكون اجتيازنا للصراط الواقع فوق جهنم أيسر بكثير، حيث يجتازه المؤمنون بسرعة
البرق
﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا
الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ
فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ...﴾
(الأنبياء: 101-102-103). الشيء الآخر الذي أودّ إضافته هنا هو مسألة
الأبناء، فعليكم أن تهتموا بأهليكم، وأن تسعوا إلى حفظ إيمانهم، وحذار أن تنهجوا
سياسة وأسلوباً يؤدي إلى زعزعة الأسس الاعتقادية لدى ذويكم، فأحياناً يعمل الإنسان
على إبعاد ابنه عن الدين والأسس الدينية بفعل ذرب لسانه وخطل أعماله، فيجعل منه
شخصاً منحرفاً. ولذلك، فإني أخاف الشدة في توجيه الشباب، وفي الوقت نفسه هناك من
يعمل من خلال إهمال الولد وتركه وشأنه وفتح الباب له على مصراعيه، وغض الطرف عن
أخطائه في إعداد الأرضية لفساده وانحرافه...
* وظيفة ومسؤولية:
ولذا، لا بد من اتخاذ سبيل المنطق والأسلوب الصحيح والعطوف في التعامل مع الأبناء
﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾
(التحريم:6). إذاً، الحفاظ على ذويكم وأهليكم من جملة وظائفكم
ومسؤولياتكم. وطالما استوقفني قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم
مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾
(الطور:21)، وقد جاء في الحديث: "لتقرّ عيونهم"، فإن تمكنت أيها المؤمن من
تنشئة طفلك نشأةً صالحة، فإن الله سبحانه سيقرّ عينك به يوم القيامة ويجبر نواقصه
ويلحقه بك.
(1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج1، ص48.
(2) كنز العمال، المتقي الهندي، ج14، ص363.