نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

"مجتمع" يستقوي بعضلاته

تحقيق: فاطمة الجوهري غندورة



كان يقود سيّارته مسرعاً في شارع مزدحم، يضجّ بالمارّة والدرّاجات الناريّة. حاول كبح فرامل السرعة، ولكنّها لم تسعفه، فاصطدم بالسيارة التي أمامه. تفاجأ ولكنّه التقط أنفاسه ونزل من سيارته يصرخ في المارّة تارةً، وفي وجه صاحب السيارة المذهول من هول الصدمة تارةً أخرى...

* الاستقواء: حالات ناشزة
الاستقواء ظاهرة لافتة في المجتمع، وهي إمّا نتيجة غضب وعصبيّة زائدة، وإمّا متعمّدة يلجأ إليها صاحبها ليكون مهاباً بين الناس، فيما يرى بعضهم في الاستقواء سبيلاً للخروج من أيّ مأزق بغضّ النظر عن النتائج.
كيف نتعامل مع هذه الحالات الناشزة في المجتمع؟ وكيف نربّي أولادنا على الأخلاق الحميدة في مجتمع يضمّ هذه النماذج قبل أن تتحوّل إلى ظاهرة؟
كلّها أسئلة لا بدّ لنا من الإجابة عنها. ولكن قبل ذلك، سنقف على بعض الحالات الواقعيّة.

* "سآكله بأسناني"
تروي لنا سعاد (45 عاماً) قصّة ولدها الذي تعرّض للأذى من قبل تلميذ آخر في المدرسة، حيث كان الولد يشكو أمره إلى معلّمة الصف، التي كانت تسارع إلى معاقبة التلميذَين معاً دون أن تحاول الاستماع إلى المشكلة وحلّها من جذورها، وإيقاف الولد المتسلّط عند حدّه.
وتعبّر سعاد قائلة: "عندما أحسست أنّ الأمر يزداد سوءاً، وشعرت أنّ حالة ولدي النفسيّة تتأزّم، تدخّلت وطلبت منه أن يردّ وبقوة على اعتداء التلميذ الآخر؛ وهذا ما أدّى بالإدارة إلى محاولة فصل ولدي عقاباً له. لم أسمح لهم بتنفيذ قرار الفصل، وحمّلتهم المسؤوليّة في وصول الأمر إلى هذا الحدّ، كما هدّدت الولد المستقوي بأنّه لو تعرّض لولدي مرّة أخرى "فسآكله بأسناني". ومنذ ذلك الوقت لم يعد يتعرّض ولدي لأيّ عنف من قبل رفاقه في المدرسة".

* طالب بحقّك باحترام
يؤكّد الحاج أبو محمد أنّه "على الرغم من الفساد والظلم المستشري في مجتمعنا إلّا أنّي أربّي أولادي على الأخلاق؛ من احترام الكبير واستيعاب الصغير، ولكن مع عدم التنازل عن الحقّ والمدافعة عنه؛ فأطلب من ولدي تبيان حقّه بطرق محترمة دون استعمال الأساليب اللاأخلاقيّة ولو استعملها الشخص المستقوي ضدّه".

* "طالبتُ بحقّي بهدوء.. لكن لم ينفع"
تُحدّثنا سميرة (50 عاماً) أنّها لقّنت ثلاث نساء درساً لن يَنْسينه أبداً، عندما حاولن أن يضربنها ويعتدين عليها؛ لأنّها ضبطت ابنة إحداهنّ داخل الدكان الخاص بها تسرق أحد المنتجات، فحاولت استرجاع المنتج المسروق، بكل أدب دون التجريح بالفتاة لكنهنّ توعّدنها وهدّدنها، تقول: "اضطررت للدفاع عن نفسي بقوّة ما دفعهنّ للاعتذار منّي".
قصّة سميرة من القصص التي تحتاج علاجاً لناحية: هل يُبرّر لي استقواء الآخر أن أمارس الاستقواء نفسه، أم المواجهة بقوّة لمنع استقوائه فقط دون التعدّي عليه؟ لكي لا يتحوّل استقواؤه إلى عدوى تسري إلينا.

* القوّة المستعارة من الآخرين
بدأ الدكتور فضل شحيمي حديثه معنا بشرح المعنى الحقيقي للاستقواء، فهو "القوّة المستعارة" من الآخرين، وهي قوة مهزوزة غير نابعة من الذات ومعرّضة للزوال في كلّ آن. كما ميّز بينها وبين الثقة بالنفس التي هي القوّة الحقيقيّة النابعة من الذات والمدافعة عن الحق، والتي يجب أن تُستخدم في مكانها ووقتها الصحيحين.

* "إنّك امرؤ فيك جاهليّة"
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى ما أوضحه الشيخ علي خازم عندما سألناه عن ذلك، فأجاب أنّ الاستقواء منه ما هو ممدوح ومنه ما هو مذموم. فالممدوح هو الاستقواء بالحكم الشرعي وبالحاكم أو السلطة القانونيّة لإثبات الحقّ أولاً، ثم الاستعانة بتطبيقه ثانياً. أمّا المذموم، بل المحرّم، فهو في استيفاء ما يعتقده حقاً بالباطل، سواء كان اعتقاده حقّاً أو وهماً.
وبيّن الشيخ علي أنّ أشكال الاستقواء كثيرة، منها: الظلم والغصب والإلجاء والإكراه والتنابز بالألقاب، والتعيير، وتُذكر رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال لأحدهم عندما عيّر رجلاً بأمّه بأنّها أعجميّة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "عيّرته بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّة".

* خلل بكل ما للكلمة من معنى
يُعنْون الدكتور فضل شحيمي أسباب الاستقواء ويختصرها بعبارة: "خلل بكل ما للكلمة من معنى". فالاستقواء أشبه بفيروس أو عدوى ما تلبث أنْ تفتك بكلّ أجزاء الجسم، فتجعله عبداً لها بانفعالاته وأخلاقه وتصرّفاته. ويبدأ الدكتور شحيمي بالقول: "إنّ أول مراكز الخلل هو النواة الأولى "الأسرة". فالخلل في المفاهيم التربويّة يجعل من الأهل عاملاً في زرع بذور الاستقواء داخل نفوس أبنائهم، من خلال التفرقة بين الأولاد، وتفضيل بعضهم على بعض. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يكرّس الأهل مفاهيم الاستقواء في نفوس أبنائهم؛ عبر إرساء مبادئ التمييز بينهم وبين أفراد المجتمع "أنت ابن فلان ومن عائلة فلان، فلا يحقّ لأحد ما يحقّ لك".
ثم ينتقل الدكتور شحيمي إلى موضوع الخلل في القواعد والقوانين الاجتماعيّة ومؤسّسات الدولة، وعدم العدل في تطبيق القوانين، والتعامل على أساس المحسوبيّات؛ ما يجعل الإنسان غير واثق إلّا بقوة يده وبطش سلاحه.
ويضيف أيضاً: "مسألة الخلل في البنية المدرسيّة من خلال عدم الإنصاف بين التلاميذ ومحاولة عقاب الجميع دون فهم الأسباب؛ تجعل المستقوي والمستقوى عليه في وضع غير محمود العواقب في المستقبل".

*كيف نعالجه؟
أما العلاج على حدّ قول الدكتور شحيمي، فيبدأ من الأسرة "الهيكل الاجتماعيّ الأول"، حيث يجب أن تسود أفكار التربية الحديثة القائمة على الحوار في حلّ المشاكل، وعدم اللّجوء إلى القوة والانفعال واللاعقلانيّة في حلّ الخلافات إن كان داخل الأسرة أو خارجها، ولا بد من عدم التمييز بين الأولاد ومنع تسلّط أحدهم على الآخر.

* معالجة الأمور بموضوعيّة
في المدرسة، لا بدّ من أن تعالج الأمور بشكل موضوعيّ؛ بأن يُنظر في الشكوى والاعتداء، ويُحاسَب الفاعل دون محاسبة التلميذ المستقوى عليه؛ لأنّه يكون بذلك قد تعرّض للظلم مرّتين. لذا، على المدارس أن تلجأ إلى اختصاصيّين تربويّين لمعالجة هذه الأمور.
في انتظار خطوات متواضعة تساعدنا في تربية أبنائنا وبناء مجتمع أفضل.. لا بدّ من أنْ يبدأ كلٌّ منّا بنفسه وبعائلته، بجيرانه وأقرانه، من خلال نشر مفاهيم الدين والأخلاق، وتكريس مفاهيم العدل وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه؛ من أجل الكرامة الإنسانية، وكي نبقى رمزاً ومثالاً في أعين أبنائنا. في انتظار غدٍ أفضل.

أضيف في: | عدد المشاهدات: