مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

المدينة المنورة منطلق الدعوة الرضوية


الشيخ حاتم إسماعيل‏


لم تكن مهمة الإمام الرضا عليه السلام باليسيرة ولا السهلة، إن لم نقل إنها كانت من أشد المهام أهمية وخطورة، فقد واجه التحديات القاسية على كافة المستويات، الفكرية، والروحية، والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والأخلاقية. فقد عاش عليه السلام نيفاً وثلاثين سنة في ظل إمامة أبيه الكاظم عليه السلام ، الذي قضى معظمها في سجون العباسيين وجلاوزتهم، وكان على الإمام الرضا عليه السلام أن يواجه الأحداث الكبرى حينها، بتوجيه ورعاية أبيه عليه السلام.

* محنته مع الأصحاب
إلا أن التحدي الأكبر الذي واجهه الإمام الرضا عليه السلام بعد وفاة أبيه الكاظم عليه السلام ، إنكار الكثيرين من أصحاب أبيه لإمامته، وهم الذين سموا بالواقفة، فقد ورد عن يونس بن عبد الرحمن أنه قال: "لما مات أبو الحسن عليه السلام وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير، فكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته عليه السلام (1)". ولعل ما زاد الأمر حرجاً وصعوبة على الناس، أن الإمام الرضا عليه السلام كان مأموراً بعدم إعلان إمامته إلا بعد وفاة هارون الرشيد بأربع سنين، حسب ما رواه يزيد بن سليط الزيدي عن الإمام الكاظم عليه السلام (2).

* الانحراف الفكري
ولم تقتصر المشكلات الفكرية على إنكار إمامته، من قبل كبار العلماء من شيعة أبيه عليه السلام ، بل عمّت المجتمع الإسلامي برمته، حيث ترجمت مؤلفات اليونانيين، وأدخلت الشبهات الفلسفية إلى أذهان الناس، وافتتنوا بها، كما أطلقت حرية الدعوة والترويج للديانات الأخرى، من اليهودية والنصرانية والمجوسية، وكذلك الدعوات الإلحادية، وانتشر الزنا في كل مكان. في موازاة ذلك كان الحكام العباسيون يعملون على إثارة المشاكل الفكرية بين الناس، ويشجّعون الجدل، حتّى يشتغل الناس بهذه المسائل ويبتعدوا عن التعرض لسلطانهم، ولكل ما يمكن أن يعيق تسلّطهم وسياستهم الظالمة. فقد ورد أن هارون الرشيد كان يناصر القول بقدم القرآن، وهو الرأي الذي يراه أحمد بن حنبل، فقد قتل رجلاً بين يديه، ولما سئل عن سبب قتله، قال: "قتلته لأنه قال إن القرآن مخلوق"(3). وأما ابنه المأمون فوقف في الصف المقابل، وناصر القول بخلق القرآن، وألقى بأحمد بن حنبل في السجون، ونال منه الكثير من العذاب والألم ليرجع عن مقولته.

* الانحراف المالي والأخلاقي
لقد استأثر خلفاء بني العباس بأموال المسلمين، واعتبروا بيت المال ملكاً خاصاً لهم، وهي سابقة خطيرة في الإسلام، حيث لم يجرؤ الأمويون أنفسهم على مثل ذلك، فأخذوا يشترون به الجواري والخصيان، ويشجعون مجالس اللهو والترف والمجون، وانتشرت حانات الخمر ومجالس السوء. ويتحدث المؤرخون عن الكثير من حكايا الرشيد والأمين والمأمون في شرب الخمر ومجالس الندماء، وتقريب الشعراء من الماجنين والباحثين عن المال بأي ثمن، وكان الخلفاء يدفعون للمتزلفين منهم الأموال الطائلة. هذا في الوقت الذي كان المسلمون فيه يرزحون تحت الضغط المالي والاجتماعي، نتيجة هذا الاستئثار، الأمر الذي انعكس انحلالاً أخلاقياً على كافة المستويات. ولم يقتصر الأمر على هذه الأبعاد، بل تجاوزها إلى الاقتصاد والسياسة وغيرهما من الجوانب، التي جعلت الأخطار محدقة بالدولة من الخارج والداخل على السواء.

* بداية تحرك الإمام عليه السلام
في ظل هذه الأجواء الضاغطة والحرجة، على كافة المستويات، قد تبدو مهمة الإمام شبه مستحيلة، إذا ما قورنت بعمل أي مصلح اجتماعي. فمن ناحية، لا بد وأن يتصدى لكافة المشاكل التي تواجه المجتمع الإسلامي، وتتهدد كيانه. ومن ناحية أخرى، إلى جانب عمله على تثبيت دعائم الإمامة بين الشيعة، عليه إرجاع العلماء الذين أنكروا إمامته إلى جادة الصواب ما أمكن ذلك، مع بقائه بعيداً عن ملاحقات الحكام ومضايقاتهم. إن نجاح الإمام عليه السلام في إنجاز مهمته، في ظل هذه الظروف والمحن، يعد من المعجزات الحقيقية، التي يمكن أن يكون لها الأثر الكبير على صدقية أئمة أهل البيت عليهم السلام على العموم، حتى وصل الحال بالمأمون العباسي إلى أن يعقد له ولاية العهد، خوف ازدياد شعبيته، وتكاثر أتباعه، وهو ما لا يمكنه تحمله. فقد ورد عن أبي الصلت الهروي أنه قال: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا عليه السلام ، ولا رآه عالم إلا وشهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الأديان، وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقر له بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور. ولقد سمعت علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول: كنت أجلس في الروضة، والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم من مسألة شاروا عليّ بأجمعهم، وبعثوا إليّ بالمسائل فأجيب عنها(4).

* حركته عليه السلام وفق مقتضيات المصلحة
وما دام المهم بالنسبة للإمام هو الحفاظ على الإسلام والمسلمين، فلا بد أن يكون الملاك في أي حركة يقوم بها ما تقتضيه مصلحة الإسلام والمسلمين. من هنا، نجد أنه عليه السلام كثيراً ما كان يبرز جانب الإعجاز والكرامة، خصوصاً قبل فترة إعلان إمامته أمام الملأ، ليثبت لعلماء الواقفة والشيعة عموماً، أنه هو الإمام الحق بعد أبيه عليه السلام . وقد كان لهذه المعجزات أثر كبير عند الكثير منهم، فإنهم يعرفون هذا الجانب عن الأئمة بالدقة، فرجع الكثيرون منهم إلى الحق، ليدافع عن بيضة الإسلام، ويعمل على تصحيح مسار الأمور في كل الدولة الإسلامية، دون أن يكون لذلك تأثير على تحركه ونشاطه، ودون أن يلفت نظر الحكام إلى حقيقة دعوته. وقد كان الإمام كثيراً ما يكلم الناس بلغاتهم المختلفة فيقرون له بأنه أعلم بلغاتهم منهم، فقد ورد عن الهروي أنه قال: كان الرضا عليه السلام يكلم الناس بلغاتهم، وكان-والله-أفصح الناس وأعلمهم بكل لسان ولغة، فقلت له يوماً: يا ابن رسول الله، إني لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها، فقال: "يا أبا الصلت، أنا حجة الله على خلقه، وما كان الله ليتخذ حجة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم، أوما بلغك قول أمير المؤمنين عليه السلام "أوتينا فصل الخطاب"؟ فهل فصل الخطاب إلا معرفة اللغات" (5)؟. وبعد وفاة أبيه الكاظم عليه السلام ذهب إلى البصرة لمحاججة اليهود والنصارى والزنادقة فيها، حتى أقروا له بالإمامة والفضل، وثبّت فيها عقيدة المؤمنين من أهلها، وكان مما قال عليه السلام : "صليت اليوم صلاة الفجر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله مع والي المدينة، وأقرأني بعد أن صليت كتاب صاحبه إليه واستشارني في كثير من أموره، فأشرت عليه بما فيه الحظ له، ووعدته أن يصير إلي بالعشي بعد العصر من هذا اليوم، ليكتب عندي جواب كتاب صاحبه، وأنا وافٍ له بما وعدته، ولا حول ولا قوة إلا بالله"(6).

وظاهر أن هذه الرحلة كانت بطريق إعجازي، إذ من غير الممكن أن يصلي الصبح في المدينة وينتقل إلى البصرة ويناظر فيها جميع المخالفين، ويفحمهم، ثم يرجع إلى المدينة قبل صلاة العصر، إلا بطريق إعجازي. وهكذا شكلت المدينة المنورة المنطلق الأساسي، الذي بدأه الإمام الرضا عليه السلام في حركته ودعوته، دون أن يلفت نظر الحكام العباسيين. واستفاد أشد استفادة من زعمهم إطلاق حرية العمل الفكري والثقافي لدى العلماء، فأظهر نفسه على أنه أعلم منهم، يناقشهم ويناظرهم، ويعمل على تصحيح الأخطاء، ويعين شيعته ومواليه، ويثبت اعتقاداتهم، حتى أرجع الحق إلى نصابه. وقد عمل عليه السلام في مختلف الجوانب المرتبطة بشؤون الإسلام والمسلمين، محاولاً إصلاح ما فسد من أمورهم، حتى إذا ظهر شأنه، واشتهر أمره، وبانت إمامته عليه السلام لجميع الناس، وخشي الحكام من سطوته، استدعاه المأمون من المدينة ليعهد إليه بولاية العهد.


(1) عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج‏1، ص‏91.
(2) عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج‏1، ص‏19-21.
(3) البداية والنهاية، ج‏10، ص‏215.
(4) البحار، ج‏49، ص‏100.
(5) بحار الأنوار، ج‏49، ص‏81.
(6) بحار الأنوار، ج‏49، ص‏74.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع