صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

الإمام الرضا عليه السلام: السيرة والسّمات


الشيخ محمد يونس‏


ولد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ثامن أئمة أهل البيت عليهم السلام في المدينة المنورة يوم الخميس الحادي عشر من ذي القعدة سنة 148 هجرية على أشهر الروايات كما أفاد العلامة الشيخ الصدوق قدس سره. وكان يكنى بأبي الحسن، وقيل بأبي الحسن الثاني، ومن أشهر ألقابه الرضا والرضي. وقد بقي عليه السلام قبل توليه الإمامة مع أبيه أثناء ولايته ما يزيد عن ثلاثين عاماً، عاين خلالها فترة سياسية من أشد المراحل حساسية ودقة، فقد شهد خلافة هارون الرشيد الذي كان من أظلم حكام بني العباس على أئمة أهل البيت عليهم السلام، وعاين ما شهده والده الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام من تعذيب ومحاصرة، انتهت بدس السم له بعد سجْنه ما يزيد عن أحد عشر عاماً، ثم إلقاء جثمانه المقدس على جسر الرصافة في بغداد.

* إمامة الرضا عليه السلام
وقد نصّ الإمام الكاظم عليه السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه السلام من بعده بعدة روايات نذكر واحدة منها اختصاراً: فقد روى محمد بن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: دخلت على الإمام موسى بن جعفرعليه السلام وقد اشتكى شكاية شديدة (أي في مرض وفاته)، فقلت له: إن كان ما أسأل الله أن لا يريناه، فإلى من؟ قال عليه السلام: إلى علي ابني وكتابه كتابي وهو وصيي وخليفتي من بعدي(1). وأما مدة إمامته، فقد قضى منها حوالي ثمانية عشر عاماً في المدينة المنورة، وسنتين في خراسان بعد أن استدعاه المأمون إليها قهراً. كتب السيد هاشم معروف الحسني يقول: "وبالفعل، لقد لقي الإمام الرضا عليه السلام من حكام عصره خلال الأعوام العشرين التي عاشها بعد أبيه ضروباً من المحن والآلام من نوع آخر، وكان يعاني من وقعها ومرارتها، وبالتالي لقي نفس المصير الذي لقيه والده من قبله كما ترجح ذلك الأحداث والقرائن التي رافقت تاريخ وفاته"(2). كما شهد الإمام الرضا عليه السلام النزاع السياسي وما نتج عنه من حرب دموية بين الأمين والمأمون ولدي هارون الرشيد على وراثة الخلافة العباسية، وما كان لتلك الفترة من انعكاسات قوية على نهج أهل بيت العصمة عليه السلام. فقد حاول كلا طرفي النزاع استمالة أنصار الإمام إلى جانبه للقتال معه واعداً إياهم بالقرب منه، ما اقتضى دوراً استثنائياً تصدى له الإمام الرضا عليه السلام بقوة وحكمة واستطاع من خلاله الحفاظ على أنصاره وأتباعه، وذلك من أجل صيانة هذه الرسالة وحفظ معالمها من التشويه أو الاندثار.

* في المدينة... خليفة الرسول صلى الله عليه وآله
وكان في المدينة المنورة يجلس مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ابن نيف وعشرين عاماً فيعلم الناس ويزكيهم، ويجيب على مسائلهم ويستفتونه في شؤون حياتهم كافة ويحل لهم المعضلات، حتى شهد له القاصي والداني بعلمه وعبادته وفضله على كل أهل زمانه. وكان المسلمون يقصدون المدينة المنورة من كل حدب وصوب ليتلقوا علوم ومعارف أهل البيت عليهم السلام على يدي وارث رسول الله صلى الله عليه وآله علماً وعبادة وحكمة. وقد زخرت كتب الرجال بأسماء الكثيرين من هؤلاء التلامذة الثقاة، كما زخرت كتب الحديث بمروياتهم عن الإمام الرضا عليه السلام.

* بعض ما قيل في علمه عليه السلام
فقد ورد في المجلد الرابع من مناقب آل أبي طالب قال: قال محمد بن عيسى اليقطيني: لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا جمعت من مسائله مما سئل عنه وأجاب عليه ثمانية عشر ألف مسألة وأضاف إلى ذلك(3). ولعل في مناظراته المشهورة التي كان يقيمها في خراسان مع أئمة الديانات والمذاهب الأخرى خير شاهد على سعة علمه، فكان قوي الحجة والبرهان، لا يُرد له دليل، ولا يجرؤ أحد على مناظرته، حافظاً لكتاب الله مستدلاً بآياته سريعاً ما يُسكت مناظره ويقر بعجزه. وقد أسلم بعضهم على يديه وشهدوا له بالعلم والفضل، مع أن التاريخ يؤكد أن المأمون كان يجمع له أئمة القوم في الديانات الأخرى ويحاول أن تنتهي المناظرة بإظهار ضعفه وقلة إحاطته بالعلوم الدينية. وجمع الصدوق ما وصل من هذه المسائل في كتاب أسماه عيون أخبار الرضا عليه السلام.

* أعبد أهل الأرض عليه السلام
وأما عن عبادته وتقواه، فيكفيك ما رواه رجاء بن أبي الضحاك، وهو الذي بعثه المأمون لاستقدام الإمام الرضا من المدينة المنورة إلى خراسان، فلما دخل على المأمون سأل عن حال الإمام الرضا عليه السلام أثناء الطريق فقال: والله، ما رأيت رجلاً كان أتقى لله ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته ولا أشد خوفاً لله عز وجل، وكان لا ينزل بلداً إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم فيجيبهم ويحدثهم الكثير عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله . ومضى الضحاك يحدث المأمون عن صلاته ودعائه وإقامته وليله ونهاره إلى أن قال له المأمون: بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم(4).

وعلى كل حال، فإن الظروف السياسية التي شهدتها المرحلة آنذاك لا سيما الصراع الذي مني به الأمين والمأمون على وراثة الخلافة العباسية وتلهي الحكام والولاة عن أتباع أئمة أهل البيت عليهم السلام ، أفسح المجال أمامهم لقيادة حركة علمية واجتماعية وللتواصل مع القواعد الشعبية في أرجاء العالم الإسلامي كافة، وشكل ذلك خطراً كان يتعاظم بقوة، ما دعا المأمون فور انتصاره على الأمين وسقوط بغداد بيده، إلى أن يتفرغ للقضاء على الصحوة التي أحدثها الإمام الرضا عليه السلام، فأراد إبعاده عن شيعته ومحبيه وإبقاءه قريباً منه تحت النظر والمراقبة، فاستدعاه إلى خراسان وأجبره على الذهاب إليها والبقاء فيها، وعرض عليه ولاية العهد من بعده للتخفيف من احتقان الساحة ضده. وليس المجال هنا للحديث عن الجانب السياسي وظروف ولاية العهد، لكن من الواضح أن خطة المأمون باءت بالفشل ولم يستطع أن يحقق شيئاً من أهدافه التي رسمها. بل بفضل حكمة الإمام، تحول مجيئه إلى طوس إلى همٍّ إضافي للمأمون، إذ كان حضور الإمام يشتد يوماً بعد يوم، ويزداد تأثيره حتى داخل القصر العباسي، وأضحت طوس محجة يقصدها المحبون والموالون للجلوس بين يدي الإمام لينهلوا من مدرسة العصمة الطاهرة، حتى فاق عددهم أعداد العباسيين وغلب وجودهم عليهم، ما أشعر المأمون بخطرهم فأمر أتباعه أن يلبسوا لباسهم ويتزيوا بزيهم حتى لا تظهر كثرتهم.

* شهادة الإمام الرضا عليه السلام
وعلى كل حال، فإن هذا الظهور الكبير للإمام عليه السلام جعل المأمون يعتقد بخطئه عندما أقدم على استقدام الرضا عليه السلام من المدينة المنورة إلى بلاد طوس، ووجد نفسه محاصراً بشخصية لا يمكنه إلا الإذعان لها، ما دعاه إلى أن ينتهج نهج أسلافه الطغاة في القضاء على أئمة الهدى، فقرر التخلص من الإمام الرضا عليه السلام، فما كان منه إلا أن دس له السم في عصير الرمان وسقاه إياه، فما لبث أن استشهد بعد يومين من ذلك في قرية يقال لها سنا آباد، مخلفاً من بعده ولده الإمام محمد الجواد عليه السلام، وذلك عن عمر ناهز الخمسة والخمسين عاماً. وقد روى الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام أن المأمون قال للرضا عليه السلام وهو يعالج الموت: "والله، ما أدري أي المصيبتين أعظم عليّ: فقدي لك وفراقي إياك أم تهمة الناس لي أني اغتلتك؟"(5). دفن الإمام الرضا عليه السلام في طوس في مدينة مشهد المقدسة، ومقامه اليوم معروف ومشهور، يقصده الزائرون من أرجاء الأرض كافة للتوسل والاستشفاع به، والسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.


(1) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج‏1، ص‏21.
(2) هاشم معروف الحسني، سيرة الأئمة الإثني عشر، ح‏2، ص‏355.
(3) المناقب، ج‏2، ص‏404.
(4) أعيان الشيعة، ج‏4، ق‏3، ص‏87.
(5) عيون أخبار الرضا عليه السلام، الشيخ الصدوق، ج1، ص269.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع