التكبر قد يكون على الله، كما كان لنمرود وفرعون، وسببه الطغيان ومحض الجهل، وهو
أفحش أنواع الكبر، إذ هو أعظم أفراد الكفر، ولذا تكررت في ذمه الآيات، كقوله تعالى:
﴿وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين﴾َ
وقوله: ﴿لَّن
يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا﴾.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ
لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾
وقوله:
﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾.
وقد يكون على الرسل من حيث تعزز النفس وترفعها عن الانقياد لهم كما كان لمن يقول:
﴿وَكَذَلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن
بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾،
ولمن يقول:
﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا
عَابِدُونَ﴾،
﴿قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن
مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُون﴾.﴿وَلَئِنْ
أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُون﴾
ولمن قال:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا
الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ
عُتُوًّا كَبِيرًا﴾.
وهذا في الشناعة قريب من التكبر على الله، وإن كان دونه.
وقد يكون على العباد بأن يستعظم نفسه ويستصغرهم، وهذا وإن كان دون الأولين، إلا أنه
من المهلكات العظيمة، من حيث أنه يؤدي إلى مخالفة الله سبحانه، إذ صاحبه إذا سمع من
عبد استنكف من قبله واشمأز بجحده، ومن حيث أن العز والعظمة والعلى لا تليق إلا
بالعلي الأعلى، فمهما تكبر العبد نازع الله في صفة من صفاته، ولذا قال الله سبحانه:﴿قَالُواْ
أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا
الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِين﴾
* درجات الكبر:
للكبر درجات ثلاثة:
الأولى: أن يكون مستقراً في قلبه، يرى نفسه خيراً من غيره، ويظهره في أفعاله:
بالترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، وأن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم،
ويعبس وجهه، ويقطب جبينه. وفي أقواله: بإظهار الإنكار على من يقصر في ما يتوقعه،
وإبداء الدعوى، والمفاخرة والمباهاة، وتزكية النفس، والتشمير لغلبة الغي في العلم
والعمل، وهذه الدرجة أقبح الدرجات وأشدها، إذ صاحبها قد رسخت في قلبه شجرة الكبر
وارتفعت أغصانها وفروعها، بحيث أحاطت على جميع جوارحه.
قال تعالى حكايةً عن لقمان
﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾
الثانية: كالأولى، إلا في إظهار، على اللسان، وهي دون الأولى لكونها أقل أغصاناً منها.
الثالثة: أن يكون مستقراً في قلبه بحيث رأى نفسه خيراً من غيره، إلا أنه يجتهد في التواضع، ويفعل فعل من يرى غيره خيراً من نفسه. وهذا وإن سخت في قلبه شجرة الكبر، إلا أنه قطع أغصانها بالكلية، فإن كان مع ذلك منكراً على نفسه في ما رسخ فيها، ومغضباً عليها ومتشمراً لإزالتها إلا أنه لم يقدر على دفعه بسعة وسهولة، وتميل النفس إلى ما تشتهيه في بعض الأحيان بدون اختيار، ولكنه كان في مقام المجاهدة، فلعله لم يكن عليه كثير إثم، ومثله يوفقه الله للوصول إلى ما يطلبه بمقتضى وعده.
ومن المعالجات المختصة
بالكبر: أن يتذكر ما ورد في ذمه من الآيات والأخبار المذكورة وغيرها، ويتأمل في ما
ورد في مدح ضده ـ أعني التواضع. ولكون الكبر مشتملاً على شيء زائد على العجب هو
رؤية النفس فوق الغير، فينبغي أن يعلم أن الحكم بخيرية نفسه من الغير غاية الجهل
والسفاهة، فلعلّ في الغير من خفايا الأخلاق الكريمة ما ينجيه، وفيه من الملكات
الذميمة ما يهلكه ويرديه. وكيف يجترئ صاحب البصيرة أن يرجح نفسه على الغير، مع
إبهام الخاتمة وخفاء الأخلاق الباطنة واشتراك الكل في الانتساب إلى الله تعالى، وفي صدورها وترشحها منه
ومعلوليتها ولازميتها له، فالواقف بخطر الخاتمة وإناطة النجاة والهلاك بالبواطن لا
يرى لنفسه مزية على غيره، والعارف يكون كل فرد من أفراد الموجودات أثراً من آثار
ذاته ولمعة من لمعات أنوار صفاته، بل رشحة من رشحات فضله وجوده وقطرة من قطرات تيار
فيض وجوده، لا ينظر إلى أحد بنظر السوء والعداوة، بل يشاهد الكل بعين الخير والمحبة.