في بيان معالجة الكِبَر، ذكر الإمام الخميني قدس سره في
العدد السابق شؤون حياة الإنسان في الدنيا، وما تؤول إليه أحواله، وضَعفه حين يريد
الله أن يتوفّاه، ويكمل قدس سره في هذا العدد الحديث عن حال الإنسان في العوالم الأخرى
وكيفيّة إصلاح النفس، للنجاة من آفّة الكِبَر.
*أَصْلِحْ عالَمَك الأخرويّ
أمّا عالم برزخك: فإنّك إن انتقلتَ من هذه الدنيا -لا سمح الله- قبل أن تصلحه،
فالله يعلم كيف تكون صورَتك، وكيف تكون أحوالك، إذ إنّ قوى الإدراك في هذا العالم
عاجزة عن أن تسمع أو ترى أو تشمّ شيئاً من ذلك العالم. إنّ ما تسمعه عن ظلمة القبر
ووحشته وضيقه إنّما تقيسه على ما في هذا العالم من ظلمة ووحشة وضيق، مع أنّ هذا
القياس وهذه المقارنة باطلة. نسأل الله أن ينجينا ممّا أعددنا لأنفسنا بأنفسنا!
وإنّ عذاب القبر أنموذج من عذاب الآخرة. والمستفاد من بعض الأحاديث أنّ أيدينا تقصر
عن الوصول إلى شفاعة الشفعاء في القبر، فيا له من عذاب! إنّ نشأة الآخرة أشدّ وأفظع
من جميع الحالات السابقة. إنّه يومٌ تبرز فيه الحقائق، وتنكشف فيه السرائر، وتتجسّد
فيه الأعمال والأخلاق. يوم تصفيَة الحساب. يوم الذلّة في المواقف. تلك هي أحوال يوم
القيامة!
أمّا حال جهنّم التي تكون بعد يوم القيامة فأمرها معلوم أيضاً. إنّك تسمع أخباراً
عن جهنّم! إنّ النار ليست وحدها عذاب جهنّم. فلو أنّ باباً منها انفتح على عينيك،
وعلى هذا العالم، لهلَك أهلها خوفاً. وكذلك لو انفتح باب آخر على أذنيك، وآخر على
خياشيمك، لو أنّ أيّاً منها فتح على أهل هذا العالم لهلكوا جميعاً من شدّة العذاب.
يقول أحد العلماء عن الآخرة: مثلما أنّ حرارة جهنّم أشدّ ما تكون، كذلك برودتها
أشدّ ما تكون. والله تعالى قادر على أن يجمع الحرارة والبرودة معاً. هكذا هي نهاية
حالك.
*قدوة لنا
لقد نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
يحبّ أن يركب الحمار من دون سِرج، وأن يتناول الطعام مع العبيد على الأرض، وكان
يعطي الفقراء بكلتا يديه. وفي سيرته أنّه كان يشترك في أعمال المنزل، ويحتلب
الأغنام، ويرقّع ثيابه ويخصف نَعله بيده، ويطحن مع خادمه ويَعجن، يحمل متاعه بنفسه،
ويجالس الفقراء والمساكين ويأكل معهم. هذه وأمثالها، نماذج من سيرة ذلك الإنسان
العظيم وتواضعه، معَ أنَّه فضلاً عن مقامه المعنويّ كان في أكمل حالات الرئاسة
الظاهريّة.
وهكذا قد اقتدى به أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، إذ كانت سيرته عليه
السلام من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم.
*التواضع وليد العلم
فيا أيّها العزيز! إذا كان التكبّر بالكمال المعنويّ، فقد كان الرسول الأعظم صلى
الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام، أرفع شأناً، وإذا كان بالرئاسة
والسلطان، فقد كانت لهما الرئاسة الحقّة. ومع ذلك، كانا أشدّ الناس تواضعاً. فاعلم،
أنّ التواضع وليد العلم والمعرفة، والكِبَر وليد الجهل وانعدام المعرفة. فامسح عن
نفسك عار الجهل والانحطاط، واتّصف بصفات الأنبياء، واترك صفات الشيطان، ولا تنازع
الله في ردائه - الكبرياء - فمن ينازع الحقّ في ردائه فهو مغلوب ومقهور بغضبه،
ويُكبّ على وجهه في النار.
*خالف نفسك المتكبّرة وتواضع
وإذا عزمت على إصلاح نفسك، فطريقه العمليّ، أمر يسير مع شيء من المثابرة. إنّ
الأسلوب الوحيد للتغلّب على النفس الأمَّارة، وقهر الشيطان، ولاتّباع طريق النجاة،
هو العمل بخلاف رغباتهما. إنّه لا يوجد سبيل أفضل لقمع النفس من الاتّصاف بصفة
التواضع ومن السير وفق مسيرة المتواضعين. فحيثما تكُن درجة التكبّر عندك، ومهما تكن
طريقتك في العلم والعمل، اعمل قليلاً بخلاف هوى نفسك... فإذا رغبتْ نفسك في أن
تتصدَّر المجلس متقدّماً على أقرانك، فخالفها واعمل عكس ما ترغب فيه. وإذا كانت
نفسك تأنف من مجالسة الفقراء والمساكين، فمرّغ أنفها في التراب وجالسهم، وآكلهم،
ورافقهم في السفر، ومازحهم. وقد تجادلك نفسك فتقول لك: إنّ لك مقاماً ومنزلة،
ومجالستك الفقراء تذهب بمنزلتك من القلوب. فاعلم، أنّ هذه من مكائد الشيطان والنفس
الأمَّارة.
*تواضع العلماء عجيب!!
لقد عاصرتُ شخصيّاً من العلماء مَن كانت لهم الرئاسة والمرجعيّة الدينيّة كاملة...
وكانت سيرتهم تلي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
منهم، الأستاذ المعظَّم والفقيه المكرَّم الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي،
حيث كانت له رئاسة الشيعة ومرجعيّتهم من 1920 إلى 1935م. كانت سيرته عجيبة، كان
يرافق الخدم في السفر، ويؤاكلهم، ويفترش الأرض، ويمازح صغار الطلبة... من دون أن
تصاب هيبته بأيّ اعتراض أو وهن.
وكان هناك آخرون من علماء "قُم" ممَّن لم يلتفتوا أبداً إلى هذه التقيّدات التي
يحوكها لك الشيطان. كانوا يشترون حاجيّاتهم من السوق بأنفسهم، ويحملون الماء من
مخازن المياه إلى بيوتهم، ويشتغلون في منازلهم. وكان صدر المجلس وذيله سواءً عندهم.
وكانوا على درجة من التواضع بحيث تبعث على التعجّب، ومع ذلك كلّه كان مقامهم
محفوظاً، بل كانت منزلتهم تسمو في قلوب الناس أكثر فأكثر.