الإمام الخميني قدس سره
العصبية واحدة من السجايا الباطنية النفسانية. ومن آثارها الدفاع عن الأقرباء، وجميع المرتبطين به وحمايتهم، بما في ذلك الارتباط الديني أو المذهبي أو المسلكي، وكذلك الارتباط بالوطن وترابه، وغير ذلك من ارتباط المرء بمعلمه، أو بأستاذه، أو بتلامذته وما إلى ذلك.
والعصبية من الأخلاق الفاسدة والسجايا غير الحميدة، وتكون سبباً في إيجاد مفاسد في الأخلاق وفي العمل. وهي بذاتها مذمومة حتى وإن كانت في سبيل الحق، أو من أجل أمر ديني، من غير أن يكون مستهدفاً لإظهار الحقيقة، بل يكون من أجل تفوقه ألأ تفوق مسلكه ومسلك عصبته، أما إظهار الحق والحقيقة وإثبات الأمور الصحيحة والترويج لها وحمايتها والدفاع عنها، فإما أنه ليس من التعصب، وإما أنه ليس تعصباً مذموماً.
إن المقياس في الاختلاف يتمثل في الأغراض والأهداف وخطوات النفس والشيطان أو خطوات الحق والرحمن.
وبعبارة أخرى، إن المرء إذا تعصب لأقربائه أو أحبته ودافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحق ودحض الباطل، فهو تعصب محمود ودفاع عن الحق والحقيقة، ويعدّ من أفضل الكمالات الإنسانية، ومن خلق الأنبياء والأولياء. وعلامته المميزة هو أن يميل الإنسان إلى حيث يميل الحق فيدافع عنه، حتى وإن لم يكن هذا الحق إلى جانب من يحبّ، بل حتى لو كان إلى جانب أعدائه. إن شخصاً هذا شأنه يكون من جملة حماة الحقيقة، ومن زمرة المدافعين عن الفضيلة وعن المدينة الفاضلة، ومن الأعضاء الصالحين في المجتمع، ومن المصلحين لمفاسده.
أما إذا تحرّك بدافع قوميته وعصبيته بحيث أخذ بالدفاع عن قومه وأحبته في باطلهم وسايرهم فيه ودافع عنهم، فهذا شخص تجلت فيه السجية الخبيثة، سجية العصبية الجاهلية. وأصبح عضواً فاسداً في المجتمع، وأفسد أخلاق المجتمع الصالح، وصار في زمرة أعراب الجاهلية.
ويستفاد من الأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة والطهارة أن العصبية من المهلكات والباعثة على سوء العاقبة والخروج من عصمة الإيمان، وأنها من ذمائم أخلاق الشيطان.
جاء في الكافي بسنده الصحيح، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "منْ تعصَّب أوتُعصِّبَ له فقدْ خُلع رِبْقُ الإيمان من عنقه". أي أن المتعصب بتعصبه يكون قد خرج من إيمانه، وأما المتعصب له، فبما أنه قد رضي بعمل المتعصب. يصبح شريكاً له في العقاب. كما جاء في الحديث الشريف: "ومن رضي بعلم قوم حشر معهم أما إذا لم يرض به واستنكره فلن يكون منهم".
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لم يدخل الجنة حميَّة غير حميَّة حمزة بن عبد المطلب وذلك حين أسلم غضباً للنبي".
فمن المعلوم أن الإيمان، وهو الفوز الإلهي ومن الخلع الغيبية لله جل جلاله، الذي يفيض بها على المخلصين من عباده، والخاصة في محفل أنسه، يتنافى مع مثل هذه السجية الممقوتة التي تدوس الحق والحقيقة، وتطأ بأقدام الجهل على الصدق والاستقامة.
ولا شك في أن القلب إذا غطّاه صدأ حب الذات والأرحام والتعصب القومي الجاهلي فلن يكون فيه مكان لنور الإيمان، ولا موضع للاختلاء مع الله ذي الجلال تعالى. إن ذلك الإنسان الذي تظهر في قلبه تجليات نور الإيمان والمعرفة، ويطوق رقبته الحبل المتين والعروة الوثقى للإيمان، ويكون رهن الحقيقة والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالقواعد الدينية وتكون ذمته مرهونة لدى القوانين العقلية، ويتحرك بأمر من العقل والشرع، دون أن يهز موقفه أيّ من عاداته وأخلاقه وما يأنس به من مألوفاته. فلا تحيد به عن الطريق المستقيم. إن الإنسان الذي يدعي الإسلام والإيمان هو ذلك الذي يستسلم للحقائق ويخضع لها، ويرى أهدافه، مهما عظمت، فانية في أهداف ولي نعمته، ويضحي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقي. ومن الواضح أن مثل هذا الشخص لا يعرف العصبية الجاهلية، وإنه بريء منها، ولا يتجه قلبه إلاّ إلى حيث الحقائق، ولا تغشي عينيه أستار العصبية الجاهلية السميكة. وفي سبيل إعلاء كلمة الحق والإعلان عن الحقيقة يطأ بقدميه على كل العلاقات والارتباطات، ويفدي بجميع الأقرباء والأحبة والعادات على أعتاب ولي النعم المطلق. وإذا تعارضت العصبية الإسلامية عنده مع العصبية الجاهلية قدَّم الإسلام وحب الحقيقة.
إن الإنسان العارف بالحقائق يعلم أن جميع العصبيات والارتباطات والعلاقات ليست سوى أمور عرضية زائلة، إلاّ تلك العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتلك هي العصبية الحقيقية التي هي أمر ذاتي غير قابل للزوال، وهو أوثق من كل ارتباط وأقوى من كل حسب وأسمى من كل نسب.