الشيخ محمد باقر كجك
ربّما، من دواعي الحبّ، أن تغضب أحياناً.
الحبُّ الخالي من الغضب، قد يكون خالياً من الفاعليّة والقدرة على إحداث أثرٍ
حقيقيٍّ في الحياة. مثلاً، أترى تلك الدّشمة أمامنا؟ تلك التي بناها الإرهابيّون
بشكل سريعٍ قبل أسبوع، بعدما قصفوا مرصدنا بالمدفعية؟ هذه الدّشمةُ حالياً، يجلس
فيها مقاتلٌ إرهابيّ. قلبه أسودُ، وعقلهُ يرشحُ ظلاماً معتّقاً، في طيّات كتبٍ
عتيقةٍ، كتبها رجالٌ تبرأ منهم النور، وانتموا مباشرة بالنسب إلى الحقد. هذا
المقاتل الإرهابي، يضع يدهُ على مقدحٍ كهربائيٍّ موصولٍ بشريطِ تفجيرٍ ينتهي إلى
تشريكة من العبوات، وسيقوم بتفجيرها في اللحظة التي يتقدّم فيها رجالنا لتطهير
الموقع.
*قلب العاشق لله لا يحقد
هذا الموقف يا صديقي يحتاج إلى تحديد موقف القلب والعقل منه. هل القلب المجبول
بالعشق قادرٌ على تفجير هذه الدشمة؟ القلب العاشقُ لله ليس في داخله مكان للحقد. في
داخله مكان واسعٌ لكل معنى يتّصل بالحياة. أحياناً، يُجري الإنسان عمليّة جراحية
فيشقّ جسمه كي يعالج نفسه. الحبّ لله أحياناً يكون كالماء، وأحياناً يكون كمبضع
الجرّاح.
قمنا بتفجير تلك الدّشمة السوداء معاً. كان صوت التفجير قويّاً جدّاً، وكانت قلوبنا
تنبضُ بشيء كثير من الغضب الصافي، ذلك الغضب الذي ليس له أيّ جذرٍ في القلب، ثمّ
دخل الشباب إلى الموقع وطهّروه. وربّما، نبتت ورودٌ حمراء هناك بشكل لافت خلال
الأسبوع التالي.
قلتُ لصديقي: الغضب ليس هدفاً في الحرب. الغضبُ الواعي يحدّد لك العدوّ، وأساليب
القتال، وحدود الفعل العسكريّ. وربّما يحدّد نهايات الأمور.
* في حُنين: عليّ عليه السلام جدّد نيّة الغضب
في معركة حُنين، حينما أخطأ كثيرٌ من المسلمين تشخيص منطلقات الغضب، وحدوده
وأساليبه، تغيّرت وجهة المعركة.. وكاد يُقتل النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم!
أن يكون منطلق الغضب "شوفينياً" واستعلائياً ومتكئاً على هوى النفس وضيقٍ في أفق
العقل، فإنّ كل طاقة البدن والعقل والروح ستكون من أجل ترك الحقّ. "الغضب للنفس".
لقد نجح أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام في امتحان الغضب للنفس عندما كان فوق صدر
عمرو بن ودّ العامري في معركة الأحزاب. أعتقد أنّ عمرو بن ود في تلك اللحظات كان في
حالةِ تجلٍّ شيطانيّة تامةٍ، ورأى أن المعركة الحقيقية هي معركة بين عقلين، وقلبين،
وغضبين، معركة بين وعيٍ تامّ بكيفيّة الحياة في الله، ووعي تامٍ بكيفيّة الحياة ضدّ
الله...
* النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: زرع الحياة في جيش
أسْود
آه نعم، دعني أكمل لك، في معركة حنين، حينما فرّ العقل من أكثر المسلمين، وبقي
النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع أقلّ من عشرة من المسلمين، في مواجهة جيشٍ
أسْود من الغضب المنحدر عليهم كالسيل، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبحث عن
فرصةٍ فريدة لزراعة الحياة في هذا الجيش الأسود. هذه الفرصة، كانت في سيفه وسيف
الإمام عليّ عليه السلام ودعم الملائكة ونصر الله. ثم انقلبت الحال، وتمكّن
المسلمون من الجيش المعادي.
دعني، يا صديقي، أشرح لكَ أسرار القلب في المعارك..!
* نورٌ من قلبه
في ذلك اليوم، أشرق نورٌ من قلب النبيّ الأعظم ونفذ إلى قلوب الكفّار، وكان بوابة
ذلك كلّه المحبّة العظمى التي تدفّقت من قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القائد
العسكريّ حينها، على مالك بن عوف النّصري قائد المشركين، فأعلن إسلامه بعد أن رأى
من حبّ النبي ورحمته ما لم تره الأرض من قبل!
الأمر مذهل حقّاً، أن تكون قبل ساعة وحيداً في الميدان، والموت يقضم أوداجك، وبعد
ساعة تصبح منتصراً، فتمارسُ فنّ الحبّ مع عدوٍّ أسير.
هكذا هو الأمر يا صديقي.
الغضب الواعي طريق للحبّ الفعّال.
وأن تكون محمّديّاً وعلويّاً، يعني أن تضع على غضبك محلول الحبّ.
* جلال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
كان النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم صاحبَ فنٍّ عظيمٍ جداً في فتح أقفال
القلوب. والسرّ في هذا الفن، هو تلك "الدوزنة" التي وضع النبيّ أسسها في فنّ
الموازنة بين الخوف والرجاء، والجمال والجلال. يقول بعضهم إنّ النبيّ كان حاسماً
جداً في سيرته العسكريّة الجهاديّة. "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا
بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ
إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ"، والذي قال هذا هو بطلٌ كونيٌّ اسمه عليّ بن أبي طالب
عليه السلام!
* جمال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
ولكن، معجزة النبيّ كانت، حينما يعود إلى المدينة، إلى الفقراء والأيتام والأرامل،
إلى طالبي المعرفة، الحفاة العراة، وإلى القادمين من مجاهل الأرض نحو النور، كان
يغرق في الحياء، "كان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها".
هذا الجمع بين أعلى درجات الغضب الواعي والحياء، أنتجَ حبّاً فعّالاً جدّاً بين كل
الذين عاشوا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل ومع ذكراه التي انتقلت إلينا،
بل مع الإمام عليّ عليه السلام الذي حمل النموذج المحمّدي في حياته وسيرته.
قال لي صديقي: يا أخي، أين نحن وأين الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟ نحن
نعود إلى قرانا وبيوتنا، مثقلين بالتعب والهمّ، والجوع يحاصرنا، والأذى يطعننا في
ظهرنا بخناجر معروفة.. كيفَ نتحكم بالغضب؟ كيف ندوزن الحبّ في داخلنا؟ كيف نعيشُ
الحياء؟ كيف!؟
وما أقول له سوى أن نفتح عقولنا بالتعرّف إلى محمّدٍ كي نكون محمّديين.. في الجبهة،
في المنزل، في المسجد، في العمل.
أن تكون محمّدياً، يعني أن تتعرّف إلى النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم معرفةً
كافية.
فلنتعرّف إلى محمّد!
بيروت - حي الجامعة
أحمد
2017-12-02 19:30:25
مقال جميل و مهم و دقيق. موفّقين
الاحساء
فجر علي
2021-05-22 16:36:32
رائع يقتحم الاعماق يبحر بها نحو محمد صل الله عليه واله