تحقيق: كوثر حيدر
﴿لقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
(آل عمران: 164).
الحكاية تجلّت في آية واحدة، أنّ الله تعالى قد منّ على قوم عاشوا ظلام الجهل
والجاهليّة على أرض قاحلة عطشى، تُدعى "الحجاز". في هذه الحقبة، خرجت البشريّة عن
مسارها الإنسانيّ، حيث كانت الرّذيلة وباءً، والدّمُ مستباحاً، والعبدُ للعبدِ
عبداً، حتّى كان الفيض الإلهيّ، في ليلة لا تشبه اللّيالي المقمرة، ولا يشبه فجرها
الدّجى، ولا يعلم كنهها إلّا أهلها. وُلد من استجار به الأنبياء، وصلّى عليه ربّ
السّماوات، سيّد الأولياء ونور الأنوار الّذي ختم اللّه تعالى به الأنبياء
والرسالات، بُعث من هو رحمة للعالمين، "محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله
وسلم".
* من حقّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علينا
هو "الحُبّ"، الّذي لولاه نحن نفنى والكون يفنى. النّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله
وسلم هو الأب الّذي احتضن أمّته، والقائد الّذي أخرج رعيّته من قعر الذّل إلى قمم
العزّ. وهو الفتح الّذي على يديه أبصر المؤمنون واهتدَوا. من حقّ هذا النّبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم العظيم على أمّته "الخلود"، وأن يبقى ذكره متأجّجاً في وجدان
الشّعوب، أصيلاً يليق بحضرته الشّريفة. أبرز هذه المشاهد تتجلّى بذكرى مولده
الشّريف، يشير إلى درجة الاهتمام والاحترام بصاحب المناسبة صلى الله عليه وآله
وسلم.
في هذا التّحقيق سنستعرض شعيرة إحياء المولد النّبويّ الشّريف من خلال أبواب
متفرّقة نطلّ بها على شباب من الكشّافة وطلّاب المدارس، حيث سنرى من هو محمّد صلى
الله عليه وآله وسلم في عيونهم، لننطلق عبرها إلى مقابلة مع الحاجّة أمل قطّان
وأخرى مع الشّيخ شفيق جرادي.
* محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عيونهم
قمنا باستطلاع سريع لدى أطفال المدارس والكشّافة. طُلب من الأطفال رسم صورة
تعبيريّة عن النّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. بعد الانتهاء من رسمهم، تمّ
طرح سؤال عليهم: "لمَ رسمتَ هذه الرّسمة؟". تنوّعت إجاباتهم، بعضها كان عفويّاً
وبعضها كان لافتاً كمظهرٍ لأثر النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في وجدانهم رغم صغر
أعمارهم.
"زينب" (11 عاماً)، فتاة كشفيّة، رسمت نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم بملامح
طبيعيّة يتوسّط حشداً من النّاس، لكنّه الوحيد الذي قامت بتلوينه -في حين أنّ أغلب
الأطفال رسموا وجهه مشعّاً دون ملامح واضحة- وعند سؤالها عن السّبب، أجابت: إنّ
نبيّ الله كان إنساناً طبيعيّاً كسائر البشر، "يشبهنا" على حدّ تعبيرها، إلّا أنّه
كان عظيم الشّأن "يحبّ الله كثيراً" فكرّمه الله وجعل منه رسولاً إلينا، ووليّاً
علينا.
"هادي" (12 سنة) طالب في مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، رسم
النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع شهداء الدّفاع المقدّس؛ لأنّه متأثّرٌ بخطاب
الأمين العامّ لحزب الله السّيّد حسن نصر الله (حفظه الله) عن فضل "الغزاة في سبيل
الله" ،وهو الخطاب الذي يستمع إليه دائماً من خلال هاتف أخيه الأكبر. يعتبر هادي
أنّ هؤلاء الشّهداء هم جنود هذا القائد، في هذه المسيرة.
"مريم" (10 سنوات)، طالبة في مدرسة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف،
رسمت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تحيط به الأزهار؛ لأنّ أمّها تزيّن اسم محمّد
بالورود في ذكرى مولده الشّريف، وتوزّع على إخوتها، على حبّ النّبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم في هذه المناسبة، وردة وتمراً.
* من أيّام الله العظمى
في مقابلة مع الشيخ شفيق جرادي (مدير عام معهد المعارف الحكمية) تمّ استعراض
الأبعاد الاجتماعيّة لإحياء المولد الشّريف، وتحدّث فضيلته عن الغاية من إحياء هذه
الشّعيرة، وانعكاسها على شخصيّة الإنسان كفرد اجتماعيّ، فقال:
إنّ ولادة النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كبقيّة المناسبات الدّينيّة الّتي جاء
في ذكرها ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ﴾
(إبراهيم: 5). فهو يوم من أيّام الله العظمى؛ لأنّه يوم ولادة أقدس إنسان
تنزّل إلى هذه الأرض وإلى النّاس؛ لذا، فإنّ إحياء هذه المناسبة، هو إحياء لفعل
إلهيّ ومنّة إلهيّة كبرى، عظمى، ومقدّسة. وهذا الإحياء له مظاهر مختلفة أهمّها:
1- زيارة النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: في واقعنا اليوم نحتاج إلى أن
نزيد مستوى التفاعل مع مناسبة المولد النّبويّ الشّريف، على المستوى العباديّ
مثلاً، وعلى رأس الأعمال العباديّة، زيارة النّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم،
وحبّذا لو تحوّلت المفاهيم الواردة في هذه الزّيارة إلى عناوين تثقيفيّة لبيئتنا
ومجتمعنا.
2- تفعيل القيمة العليا لهذا اليوم: ينبغي أن نؤكّد على القيم العليا التي
تمثّلها ولادة النّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. ومن عناوين هذه القيم:
أ- الهداية: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّما بُعث لهداية النّاس ولأن
يتوجّه النّاس نحو فطرتهم، وليس فقط أن يتوجّه الإنسان نحو الكعبة ليصلّي. الهداية
هي أن نحوّل كلّ حياتنا إلى حياة مبنيّة على السُّنن الّتي أرساها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وعلى القيم الّتي بُعث لأجلها صلى الله عليه وآله وسلم.
ب- الرحمة: لأنّ القرآن الكريم ذكر ذلك بشكل واضح ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). علينا
أن ننشر قيم الرّحمة في بيئتنا وفي العائلة، وأن نؤسّس لصلة حقيقيّة برسول الرّحمة
محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، تبدأ مع الأطفال؛ فحين نتحدّث عن ولادة النّبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم يجب أن نسأل، كيف يمكن أن نُنفذ حُبّ النّبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم إلى قلوب الأطفال؟ وكيف يمكن أن نجعل في مدارسنا، وفي أيّ مناسبة نحييها،
رابطاً دائماً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
كذلك في النّشاط العامّ لأُسرنا وبيئتنا، أن ندخل فرحة الولادة إلى البيوت.. من
خلال الهدايا، الولائم، وأن يظهر ذلك على الشّرفات والشوارع والمحلّات أيضاً. كيف
يمكن لحياتنا كأمّة إسلاميّة أن تُعيد إرساء الصّلة بين المذاهب من خلال قاعدة
الارتكاز في هذا الدّين والّذي هو الرّسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟
يجب أن نعيد قراءة الأبعاد العقائديّة في حياة الأمّة الإسلاميّة، بالارتباط
بالنّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؛ مثلاً حين وحّد بين المهاجرين والأنصار
على أنهم جميعاً مسلمون، فلنجعل حياتنا قائمة على أصل ثابت هو نبوّة الرّسول محمّد
صلى الله عليه وآله وسلم وقيمه التي أهمّها: "الهداية" و"الرّحمة"! أن نتراحم
بمحبّته، وأن نستهدي بأصل وجوده صلى الله عليه وآله وسلم. ومن يحبّ النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم أيضاً عليه أن يعمل على اكتساب مواصفات نفسيّة، كالرّأفة والعِزّة،
والمرونة في التّعاطي مع البيئة والمجتمع. وحين تكون حياتنا قائمة على قيم النّبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم، نحن كأفراد سنتغيّر حتماً. وعلى مستوى البيئة المجتمعيّة،
نكون قد قدّمنا صورة الإسلام المحمّديّ الأصيل بعد أن حاولت قوى التّكفير الضّالة
والمُضلّة أن تقدّم صورة مشوّهة للإسلام بطريقة وحشيّة منفرة. وهنا، علينا واجبٌ
أخلاقيّ ورساليّ وجهاديّ كبير، أن نقدّم صورة النّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله
وسلم كما أرادها الله عزّ وجلّ، الّذي قال في كتابه الكريم:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4). لأنّ الدَّين الّذي
في أعناقنا تجاه النّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كبير، فهو دَينٌ على مستوى
الرّوح، وعلى مستوى العِزّة والكرامة.
* ولادته إحياءٌ للإسلام
تتحدّث الحاجّة أمل قطّان (مديرة معاهد سيدة نساء العالمين) عن النّشاطات الّتي
تقوم بها المعاهد؛ احتفاءً بهذه المناسبة فتقول: "إنّ إحدى المناسبات الإسلاميّة
المهمة "ولادة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم"، التي تقوّم العلاقة مع الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم وتعيد النّبض إليها.
أن نحيي ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعني أن نتعرّف على رسالته العظيمة
وعلى قيمها؛ الّتي أتى بها رجل إلهيّ يدعى محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم منّ
الله به على العالمين.
لقد جعل الله لنا محطّات وأيّاماً استثنائيّة، أحدها ولادة الرّسول صلى الله عليه
وآله وسلم. ويجب أن تتمحور هذه المناسبة حول نقاط أساسيّة:
1 - التّعرف على الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - الاقتداء به.
3 - بناء علاقة خاصة معه.
وأن نسأل: ماذا أضاف الإحياء على معرفتنا بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ إذا
قمنا بالإحياء الصّحيح، نكون قد شملتنا دعوة الإمام عليه السلام من خلال قوله:
"أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا". نحاول إيصال رسالة الرّسول صلى الله عليه
وآله وسلم العمليّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والتّربويّة من خلال برامج إحياء
ولادته، في المدارس، للأطفال وللشّباب وفي جميع الأعمار. في أحد الإحياءات السابقة،
كانت "البيئة" هي المحور، وذلك انطلاقاً من حثّ الرّسول على الزّراعة والاهتمام
بالغرس والأشجار، فقام المعهد بحملة تشجيعية على زراعة الأشجار والنّخيل بالتّحديد
لربط الأطفال بقيمة الشجر والنّخيل وثمارها، مضافاً إلى محاولة استبدال الحلويات
بـ"التّمر"، كونه من الأطعمة المباركة، الّتي تنير القلب. وتمّ اختيار هذا الرمز
كونه يتلاءم مع مستوى الأطفال الفكريّ. كما قمنا بحملة تشجع على النّظافة "النّظافة
من الإيمان"، وبهذا الشّكل نكون قد قدّمنا صورة حضاريّة في إحيائنا لقيمه صلى الله
عليه وآله وسلم وللإسلام".
وتتابع الحاجة القطان ذكر أنشطة للمناسبة نفسها: "قمنا بنشاط يُبرّر علاقة الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم وحبّه للفقراء والمساكين، وذلك تحت عنوان "اهدِ على حبّ
الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم". في سنوات أخرى ذهبنا باتّجاه الإضاءة على بعض
القيم على شكل "قصّة"، عبر جمع العديد من الحوادث الّتي كانت تحصل مع الرّسول صلى
الله عليه وآله وسلم التي ترتبط بعلاقته مع النّاس والأطفال والفتيان الّذين هم في
مقتبل العمر".
ربما هناك من يعمل على دحض فكرة إقامة الشّعيرة. قد يعملون على مَحو البسمة وقتل
الفرحة الّتي ترافق هذه الشّعيرة، ومنهم قد يُكفّر من "يُعظّم شعائر الله". خلف كلّ
الشّعارات الّتي تندّد بهذه الترّهات، قلوب أقرحها القيء لشدّة ما أصابها من مرض.
إحياء ولادة عظيمٍ كـ"المصطفى المختار صلى الله عليه وآله وسلم" يحيي الأفئدة،
ويرفع غشاء الجهل عن العقول الغافلة حتّى تبصر. نحن نحيا بهذه الولادة. هذه الولادة
تعني "شكراً" صغيرة جدّاً، وإحياؤها يعني "أنّنا معكم"، في الدّنيا وفي الآخرة، إن
شاء الله.