الشيخ الشهيد راغب حرب (رضوان الله عليه) (*)
تفيضُ ليالي عاشوراء بركةً، وتزخر بالعطاء، ونحن فيها
أقرب ما نكون إلى الله تبارك وتعالى، وأقرب إلى الحالة التي نُقِرُّ بها عين الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، ونتحبّب إلى آل البيت عليهم السلام بإحياء المجالس
الحسينية. وهم عليهم السلام بالغوا في الاهتمام بهذه المجالس، وبيّنوا مزيد حبّهم
لها.
* يا دعبل... ارثِ الحسين
فعلى ما ذكره الرواة، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّي أحبّ تلك
المجالس، أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا". وقبل أن أبدأ موضوعيّ، لا أنسى
أن أذكر لكم قصةً نقلها دعبل بن علي الخُزاعيّ، وهو شاعرٌ من شعراء أهل البيت عليهم
السلام الذين وقفوا شعرهم على مدح آل البيت عليهم السلام، وذمّ المعادين لهم. يقول
دعبل: تركت الكوفة، وقصدت الإمام الرضا عليه السلام وكان الزمان شهر محرّم، فدخلت
عليه وهو جالسٌ وأصحابه حوله فرحّب بي، فما زال يدنيني حتّى أجلسني إلى جانبه، ثمّ
قال: "يا دعبل، أُحبّ أن تنشدني شعراً، فإنّ هذه الأيام أيام حزنٍ كانت علينا أهل
البيت، وأيامَ سرور كانت على أعدائنا (...). يا دعبل من بكى وأبكى على مصابنا ولو
واحداً كان أجره على الله (...)"(1). ثمّ قام وضرب ستراً بينهم وبين النساء ودعاهنّ
ليجلسن خلف الستر، ثم عاد إليه وقال: "يا دعبل ارثِ الحسين، فأنت ناصرنا (...)"،
فأنشده دعبل قصيدته المعروفة: والتي يخاطب فيها الزهراء عليها السلام، من جملتها:
أفاطم لو خلت الحسين مجدَّلا |
وقد مات عطشاناً بشط فرات |
إذاً للطمت الخدَّ فاطمُ عنده |
وأجريتِ دمْع العين في الوجنات |
فبكى الإمام عليه السلام
والحاضرون. قال دعبل: وسمعت من خلف الستار النائحات، وفيهن من تصيح واأبتاه، واجداه
واحسيناه.
* دليلٌ على عمق الولاء
هذه المجالس يرضى عنها الأئمة عليهم السلام، وهي دليل صدقٍ على عمق الولاء وعمق
الحب لهذا البيت الطاهر، الذي نزّهه الله تعالى عن الرجس، وطهّره تطهيراً. وهي دليل
وفاءٍ للرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي قضى عمره جهاداً، من أجل أن يُخرج الناس
من الظلمات إلى النور. وهي دليل وفاءٍ للأئمة عليهم السلام الذين بذلوا الغالي
والنفيس من أجل أن يُوصلوا إلينا دليل تحرّرنا، ودليل كرامتنا، ودليل عزّتنا، ألا
وهو هذا الإسلام خالياً من كل شائبة، صافياً من كل تشويه، بعيداً عن كل تحوير. ولا
أظنّ أنّ الذين لا يُوفّقون لحضور هذه المجالس وإقامتها، يوفّقون لخير، أو لكرامة.
إنّ أهل البيت عليهم السلام أشدّ سروراً بهذه المجالس؛ لأنّها تُقرّب قلوبنا من
الإسلام أكثر، وتنوّر عقولنا بالإيمان وبالهدى أكثر.
* الثورة الحسينيّة مدخلُ الإسلام
إنّ في الثورة الحسينية فصولاً تعليميةً هامة. كلّ جانب من جوانب الثورة يستحقّ
التفكير، ونستطيع أن نتّخذ منه مدخلاً للإسلام نعتزّ به.
أ- إقامة الدين لا تقف عند سنّ: إنّ ما يقارب الـ 100 شهيدٍ في الثورة
الحسينيّة لم يكونوا من جيلٍ واحد، وإنّما كانوا من أجيالٍ متعددة. كان فيهم ابن
العشر سنين، والشيخ الكبير (80 سنة). وهذا يكشف عن أنّ روح الإسلام لا تقف عند شيء
اسمه عامل السنّ في إقامة دين الله، وفي الذبّ عن دين الله، فلا يتخيلنّ متخيّلٌ أنّ
الإنسان إذا بلغ من الكِبر عتيّاً، تسقط عنه التكاليف التي ألزم الله بها غيره من
العباد.
ب- الانفصال بين الأجيال: إنّ الإسلام يرفض شيئاً اسمه الانفصال بين الأجيال.
وهذه فكرةٌ جاهليّة من كِلا طرفيها، الطرف الأول: الانفصال بين الأجيال، والطرف
الثاني: التواصل الأعمى بين الأجيال. وهاتان فكرتان جاهليتان.
الفكرة الأولى: هي الفكرة القبَلية القديمة
التي كانت تقول: إنّ كل جيلٍ يأتي، ينبغي أن يتّبع آثار الجيل الماضي. وهذا المنطق
ناقشه القرآن الكريم، وفنّده، وأبطله؛ وذلك عندما حدَّثنا عن منطق أهل الشرك الذين
عاصروا رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، أو الذين عاصروا من كان قبله،
باستمرارهم على الشرك واتّباع العقائد الفاسدة، وتبريرهم أنّهم يتبعون بذلك
﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 22).
هذا المنطق لتبعيّة الأجيال هو منطقٌ قديمٌ جاهليّ. كانوا يعتقدون أنّ الوارث يجب
أنْ يرث العادات والتقاليد والأعراف، ونُظم الحياة.
الفكرة الثانية: الجاهلية الحديثة، فقد تبنّت
موقفاً يناقض المنطق الأول تناقضاً تامّاً، وهو أنّه ينبغي أنْ يكون لكلّ جيلٍ
طريقه، فلا يرتبط الجيل الحالي مع الجيل الماضي بشيء. واستغلّوا روح الحماس
الموجودة عند الشباب، واستغلّوا بعض التقاليد السيّئة الموجودة عند الكهول، فقالوا:
"يجب أن تقطعوا كلّ علاقتكم بآبائكم وأجدادكم". هذه الفكرة أعطاها بعض الناس صفة
التقدّم، مقابل صفتَي التخلّف والرجعيّة اللتين وصفوا بهما الآباء، فقالوا إنهم
متخلّفون ورجعيّون. هذه الفكرة ناشئةٌ عن الروح الغربية المغرورة. طبعاً، هم لم
يقولوا عن آبائنا: إنّهم متخلّفون؛ لأنّهم لا يحسنون القراءة مثلاً، أو لأنّهم لا
يُحسنون الكتابة؛ ليقطعوا حبل المدد بيننا وبينهم، وبمعنىً آخر: ليقطعوا بيننا وبين
جيلنا الماضي حبل الإسلام.
* خدعة التقدّم والتحضّر
أهلنا، رغم الأوضاع السيئة التي أحاطت بهم، ورغم ظروف العيش القاسية التي كانوا
يعيشون فيها، فإنّ قلوبهم تنضح حباً لله، وتسليماً لله، وللإسلام، ولرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ولأولياء الله، رغم أنهم كانوا لا يقرؤون، ولا يكتبون. بثّت
روح الجاهلية الحديثة هذا النَفَس الشيطانيّ، ليكون حاجزاً بين شبابنا وبين الإسلام.
أقنعوا كل واحدٍ منهم أنّك بمقدار ما تكون مُقلّداً للغرب، ولو بدون وعيٍ ولو بدون
معرفة، فأنت متقدّم ومتحضّر. بمجرد أن تخلع ثوبك ذا الشكل المعيّن، وتلبس ثوباً
جديداً مُصمّماً في غير بلدك، أو ترفض التقاليد كاملةً من دون نظر، إذاً أنت متقدّمٌ
وأنت متحضّر. جعلوا بين الجيلين حاجزاً وهميّاً كبيراً؛ لذلك تحوّل الآباء والأبناء
إلى أعداءٍ يوماً بعد يوم. وإذا العَرَق الذي بُذل في تربية بعض الأبناء، تحوَّل
عندهم إلى غربةٍ عن مجتمعهم.
صاروا يعيشون الغربة الكاملة في بيوتهم وبين أهلهم. يُغلّفون أنفسهم بحاجزٍ من
الوهم، بشرنقةٍ من الوهم؛ لأنهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون رفضوا كل ما له علاقةٌ
بماضيهم، رفضاً بدون تفكيرٍ وتمحيص.
* الإسلام ولكلّ شيء حُكم
ليس من موضوعٍ قط، إلّا وقد وضع الإسلام له أحكاماً. وما من واقعةٍ إلاّ ولله فيها
حكم. ومن جملة هذه الوقائع، العلاقة بين الجيلين، هل يجب أن أكون تبعاً لأبي مطلقاً
هكذا بدون أن أفكّر، أم إنّه يجب أن أقطع علاقتي بأبي؟
لا! لا يجب أن أقطع علاقتي بأبي، ولا يجب أن أتبعه بالكامل، وإنّما أجعل بيني وبينه
تواصلاً بالخيرات. هذه الجملة نقولها وهي ليست عبثيّة، فكل حركةٍ لها معنى. إقامة
الصلاة لها معنى، أداء الزكاة، التكبير في أول الصلاة، ليس هناك شيءٌ وُضع عبثاً.
ومن جملة المسنونات أن ندعو إذا مات ميتٌ منّا، ونقول: "اللهمّ اغفر للمؤمنين
والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، تابع بيننا وبينهم
بالخيرات". بـ"الخيرات" وبالإسلام تُصبح الأجيال جيلاً واحداً، يتساوى الكبير
والصغير، وتصبح المسألة هي مسألة التقوى.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان آخر أعماله أن أمّر شابّاً على جيش المسلمين
الزاحف لمحاربة الشرك، وللفتح الإسلاميّ. أمّر أسامة بن زيد وهو شابٌ يافع، فلمّا
تخلّف بعض الشيوخ من المسلمين عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لعن
الله من تخلّف عن جيش أسامة". إذاً، مسألة الجيل، مسألة السن ليس لها دخالة. الأهم
في كلّ مسألة طاعة الله، والعمل لإعلاء كلمة الله.
* وقّروا كباركم وارحموا صغاركم
الجيل الماضي جيلٌ يجب أن يُحترم. والجيل الجديد جيلٌ يجب أن يشعر بالحب، يجب أن
يُشعِر الصغارُ الكبارَ بالاحترام، ويجب أن يُشْعِرَ الكبارُ الصغارَ بالحبّ. هذه
العلاقة، هذه الروح هي التي يجب أن تكون المعْبَر كما نصّت وصيّةٌ للرسول صلى الله
عليه وآله وسلم- "وقِّروا كباركم، وارحموا صغاركم". وضمن جوِّ الوقار وجوّ
الحبّ والرحمة، تنتقل أفكار الخير، تنتقل أفكار الإسلام التي نقلتها إلينا أجيالنا
الماضية، بعد أن بذلوا في سبيلها أشياءً غالية. هذه العادات التي قد لا يهتم بعض
الناس بها، ومنها عادة حضور مجالس الحسين عليه السلام، حيث يفكِّرون بمنطق أنّي لو
لم أحضر إلى الحسينية ما الذي ينقص؟ فكأنّ أحدهم يقول لو أنّي انسحبت من جيش مُسلم
[بن عقيل]، ورجعت إلى بيتي ماذا ينقص؟ خرج مُسلم ليلاً من مسجد الكوفة فلم يجد من
يدلُّه على الطريق.
هذه المجالس وصلت إلينا وقد كلّفت أجيالنا الماضية، دماءً، وسِجناً، وعرقاً، وتعباً،
وضنكاً، ومالاً، وجهاداً، حتّى استطاعوا أن يوصلوا إلينا روح الحسين عليه السلام.
وصلتنا مغلّفةً بالدم فلا تستهينوا بها، ولا تضيّعوا حقّها، ولا تتعاملوا معها
تعاملاً أقلّ من المطلوب، وإنّما اعتبروا أنّ هذه الأيام مناسبةٌ فريدةٌ نادرة،
لنستلهم من هذه الروح التي وحَّدت بين القاسم وبين حبيب [بن مظاهر] (رضوان الله
عليه)، أشعرت أنهما ابنا جيلٍ واحد. هذه الروح يجب أن نستلهمها، وندع روح الجاهلية
القديمة وروح الجاهلية الحديثة، فكلاهما قد ولّد فينا تعباً، ونصباً، ومرضاً.
أسأل الله أن يوفِّقنا لأن نستلهم من روح الحسين عليه السلام، وأن نتعلّم كيف
ننشر فيما بيننا الحبّ والسلام، وكيف ننشر فيما بيننا الحنان والوئام، وأن نتعلّم
كيف يوقِّر الصغارُ كبارَهم، وكيف يرحم الكبارُ صغارَهم.
(*) خطبة ألقاها (رضوان الله عليه) بمناسبة عاشوراء، بتاريخ: 12/10/1983.
1. بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص257.