"لم يكن يملك سوى أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً،
وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانية؛ فأنزل الله فيه: ﴿الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:
274). وأنّه عليه السلام كان يسقي بيده لنخل قومٍ من يهود المدينة حتى مجلت يده،
ويتصدّق بالأجرة، ثم يشدّ على بطنه حجراً"(1).
عندما نبحث في ما وصلنا من المناقب، ممّا جادَ به الزمان ونجا من مقاصل التجزير
بتراث أهل البيت عليهم السلام عامّة، وأمير المؤمنين عليه السلام خاصّة، فإنّنا نجد
ما يذهل أصحاب الحجى، ويعجز عن تعقّله ذوو الألباب.
فهذا بعضٌ مما ورد في العلاقة بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين العطاء بكلّ
أوجهه؛ إذ نزلت فيه آيات من القرآن الكريم وتواترت في حفظه الروايات والأحاديث...
•من يباري عليّاً؟
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "إنّه [يعني عليّاً] أعتق ألف نسمة من كدّ يده،
جماعة لا يُحصَوْن كثرةً".
وقال السيد الحميري في ذلك شعراً:
أراد بهم وجه الإله وثيبا(2) |
وأعتق ألفاً من صُلْبِ ماله |
وقال له رجل، وقد رأى عنده
وَسَقاً [من نوى](3): "ما هذا يا أبا الحسن؟ قال: مائة ألف نخلٍ، إن شاء الله.
فغرسه، فلم يغادر منه نواة واحدة، فهو من أوقافه عليه السلام. ووقف مالاً بخيبر
وبوادي القرى، ووقف مال أبي نير، والبغيبغة، وأرباحاً، وأُرينة، ورعداً، ورزيناً،
ورباحاً، على المؤمنين (...) وأخرج مائة عين بِيَنْبُع وجعلها للحجيج، وهو باقٍ إلى
يومنا.
وحَفَر آباراً في طريق مكّة، والكوفة، وبنى مسجد الفتح في المدينة وعند مقابل قبر
حمزة، وفي الميقات، وفي الكوفة، وجامع البصرة، وفي عبّادان وغير ذلك"(4). وفي
القرآن الكريم شواهد عدّة في إنفاق وتصدُّق أهل البيت عليهم السلام. ومن ذلك، مضافاً
إلى الآية (274) من سورة البقرة، قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55)،
فقد ورد "أنّ عليّاً عليه السلام كان في المسجد يصلّي وهو في هيئة الركوع، إذ دخل
سائل يطلب حاجة، فأومأ عليّ عليه السلام إليه بأن يأخذ خاتمه من إصبعه". فالآية
نزلت تخلّد هذه الحادثة العظيمة، وتبيّن من هو الوليّ من بعد النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم(5).
•ويؤثرون على أنفسهم
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9). فقد روى أبو هريرة وابن عباس أنّ رجلاً
شكا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، فبعث إلى أزواجه، فقُلْنَ: ما عندنا
إلّا الماء. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من لهذا الرجل الليلة؟ فقال أمير
المؤمنين عليه السلام: أنا يا رسول الله. وأتى فاطمة وسألها: ما عندك يا بنت رسول
الله؟ فقالت: ما عندنا إلّا قوت الصِّبية، لكنّا نؤثر به ضيفنا. فقال عليه السلام:
يا بنت محمد، نوّمي الصبية وأطفئي المصباح. فلمّا أصبح النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم صلّى الصبح وصلّى معه عليّ عليه السلام، فلمّا سلّم نظر إلى عليّ وبكى بكاءً
شديداً، وقال: يا أمير المؤمنين لقد عجب الربّ من فعلكم البارحة، وقرأ عليه الآية
(6).
•عجيبة الأزمان
يقول المحدِّثون من المسلمين: "إنّ الحسن والحسين L مرضا وكانا طفلَين صغيرَين،
فعادهما وجوه المسلمين، وأشار بعضهم على عليّ عليه السلام أن يَنذر لهما، فنَذَر أن
يصوم، وصامَتْ معه فاطمة عليها السلام، وخادمتهم فضّة، لمدة ثلاثة أيام، ولم يكن في
البيت ما يفطرون عليه غير الماء، فاستقرض عليّ عليه السلام من شمعون الخيبري ثلاثة
أصوع من شعير، وقامت فاطمة عليها السلام بطحنها، وقَسَموها على ثلاثة أيام. فجاءهم
في اليوم الأول مسكين، فتصدّقوا بما اختبزوه عليه، وأفطروا على الماء، وجاءهم في
اليوم الثاني يتيم يطلب حاجة يسدّ بها جوعته، فآثروه على أنفسهم، وأفطروا على الماء،
وجاءهم في اليوم الثالث أسير يسأل ما يسدّ الرمق، فأعطوه ما عندهم وباتوا على الماء،
ثلاثة أيام صام آل عليٍّ ولم يفطروا إلّا على الماء.
وفي اليوم الرابع، صباحاً، رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين
عليهما السلام، كيف يرتعشان من شدّة الجوع، ورأى فاطمة عليها السلام في محرابها كيف
غارت عيناها، وقد التصق بطنها بظهرها، فساءه حالهم، فهبط جبرائيل بالآيات:
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء
وَلَا شُكُورًا﴾ (الإنسان: 7-9)(7).
تعبّر هذه الحادثة عن سموّ النفس الإنسانية لدى أفراد هذا البيت النبويّ إلى حدّ
يجعل قضاء حوائج أفرادٍ مهمَلين في المجتمع أولى من رَفْدِ الأجساد بحاجاتها إذا
كانت قادرة على مواصلة الحياة مع الكثير من التعب والإرهاق، وتعبّر أيضاً عن التصاق
أفراد هذا البيت بمظاهر الكرم والعطاء الربّاني الذي لا حدود له. ومن جهة أخرى
تعبّر الآيات عن موقع الريادة في عالم الإمكان الذي استحقّه هؤلاء الأفراد بتجسيدهم
الفريد لمعنى الخلافة الإلهيّة.
•مظاهر عطاء خالدة
روى الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام، في حقّ أبيه زين العابدين عليه السلام:
"إنّه كان يخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره حتّى يأتي باباً باباً،
فيقرعه ثمّ يناول من كان يخرج إليه، وكان يغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلّا يعرفه"(8).
وقال ابن إسحاق صاحب السيرة المعروف: "إنّه كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا
يَدرون من أين معاشهم، فلمّا مات عليُّ بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتَون به بالليل"(9).
ومثل ذلك ما رواه هشام بن سالم، يقول: "كان أبو عبد الله [يعني الصادق عليه السلام]،
إذا أعتم الليل وذهب من الليل شطره، أخذ جراباً فيه خبز ولحم و[دراهم]، فحمله على
عنقه ثمّ ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة، فقسّمه فيهم ولا يعرفونه. فلمّا
مضى أبو عبد الله عليه السلام، فقدوا ذلك، فعلموا أنّه كان أبا عبد الله عليه
السلام"(10).
وكان الإمام الهادي عليه السلام يتلمّس شتّى السُّبُل لاستنقاذ مال المسلمين من
السلطان، وإنفاقه على ذوي الحاجات، حيث عاش في زمن حصار وإقامة جبرية أيام المتوكّل
العباسي.
فجاءه أعرابي يوماً قائلاً: "يا ابن رسول الله، أنا رجلٌ من أعراب الكوفة
المتمسّكين بولاية جدّك عليّ بن أبي طالب، وقد ركِبَني فادح (دَيْن) أثقلني حَمْلُه،
ولم أرَ من أقصده سواك. فكتب عليه السلام بخطّه على ورقة: "إنّ للأعرابي ديناً عليّ"،
وعيّن مقداره، وأعطاها للأعرابي، وأمره أن يحضر في وقت مُعيّن يكون فيه داره يعجّ
بالناس، ويطالبه بالدين أمام الناس، مع التغليظ عليه في ترك الوفاء به.
ففعل الأعرابي عين ما أمره الإمام عليه السلام فأخذ الإمام يعتذر إليه أمام الناس،
ويشكو ضيق الحال. فحمل رجال أمن المتوكّل إليه الخبر، فأمر بحمل ثلاثين ألف درهم
إلى دار الإمام، فقال الإمام للأعرابيّ: "خذ المال واقضِ منه دَيْنك، وأنفق الباقي
على عيالك وأهلك، واعذرنا"(11).
•الإنفاق والولاء
ولا يزال العطاء العلويّ-الحسينيّ سائداً حتّى يومنا هذا... فإنّ بيت المال الذي
أنشأه وليّ أمر المسلمين، سماحة الإمام الخامنئي دام ظله، ومن قبله سماحة الإمام
الخميني قدس سره، والذي كرّسه لبناء الطاقات والقدرات وإنشاء الجيوش، وتسليح
المجاهدين، وسدّ حاجات عوائلهم، أنتج حصانة ومنعة للوطن، وألحق أكبر الهزائم
بالمحتلّين الصهاينة والمستكبرين، وأشعر أبناء الأمّة بالعنفوان والعزّة واستعادة
الكرامة، بعد أجيال متمادية من الذلّ والانكسار والهوان.
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية- فرع لبنان.
1. بحار الأنوار، المجلسي، ج36، ص62، نقله عن الدرّ المنثور للسيوطي، وعن الزمخشري
والطوسي عن ابن عباس.
2. مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج2، ص123.
3. الوَسَق: ستون صاعاً من التمر. والنوى: بذر التمر.
4. المناقب، (م،س)، ج2، ص123.
5. الأمالي، الشيخ الصدوق، المجلس 26؛ شواهد التنزيل، الحسكاني، ج1، ص177، ح235
وعشرات المصادر.
6. يراجع: شواهد التنزيل، (م.س)، ج2، ص246.
7. تفسير روح المعاني، الألوسي، ج29، ص157، ومختلف كتب التفسير.
8. بحار الأنوار، (م، س)، ج46، ص89.
9. (م، ن)، ص88.
10. الكافي، الكليني، ج4، ص8.
11. الصواعق المحرقة، ابن حجر، ص13؛ الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، ابن الصباغ
المالكي، ص274.