نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

من القلب إلى كل القلوب: في مواجهة إبليس(*)

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)



في معركة الإنسان وإبليس، يستمرّ الأخير في غزل حباله حول الأول، وسيبدع في وسائله لإضلال وُلد آدم، فيما يسمح الإنسان بتسلّط إبليس وبسط نفوذه عليه، عندما يتساهل بالإمكانات التي منحها الله تعالى له للصمود في هذه المواجهة، بل للانتصار بها.
فما هي هذه الإمكانات والتعزيزات لتمكين الإنسان من الانتصار في هذه المعركة؟!


•إمكانات المواجهة
أعطانا الله تعالى إمكانات عديدة لمواجهة إبليس، منها:

1- العقل:

وهبنا الله تعالى العقل لنفكّر به، ونفهم، ونقدّر العواقب والمخاطر، ونكتشف الأساليب، والوسائل، والحبائل والخدع، ولنواجه به إبليس أيضاً. بالعقل تبدو قيمة الإنسان الحقيقيّة والأساسيّة، فالذي لا يستخدم عقله، كمن لا عقل له.

2- الهداية الإلهية:

منذ بداية الخَلق قال الله لآدم وزوجه محذّراً من الشيطان: هذا عدوّ لكما، ويريد إضلالكما. ثمّ حذّرنا بواسطة الأنبياء والرسل والكتب السماوية، من إبليس ومن النفس الأمّارة بالسوء، لنميّز بهما طريق الهدى من طريق الضلال، وبيّنوا لنا التزكية والتهذيب، فضلاً عن الغواية والانحراف، وأشاروا لنا إلى نقاط ضعفنا التي يستغلّها إبليس؛ فالحجّة قائمة علينا بالعقل وببيان الأنبياء والرسل طوال التاريخ، وبهذا الموجود الذي بين أيدينا (القرآن الكريم).

3- تجارب البشرية:

يعيش إبليس عمراً مديداً، بينما أعمارنا محدودة؛ لذا عندما يوصي الأمير ابنه الحسن عليهما السلام بما معناه: نظرتُ إلى تجارب البشرية كلّها كأنّني عشت كلّ أعمار البشر(1)، فهو يقصد تراكم تجاربها والأجيال تختلف، فالبساطة التي كانت موجودة في الزمن السابق لم تعد موجودة اليوم، وحلّ محلّها مستوى أعلى من الفهم، والإدراك، والإحاطة، والقدرة على استيعاب الأمور، وما ذلك إلّا نتيجة لتراكم التجربة.

4- حرية الاختيار:

لم يعطِ اللهُ الشيطانَ سلطاناً علينا، وليس له علينا أيّ ولاية تكوينية، فنحن أحرار، ونستطيع الاختيار بين أن نطيع الله أو أن نطيع إبليس. وهذا الاختيار فيه حرية للإنسان في اتخاذ الموقف الذي يريده.

5- الإرادة والعزم:

كذلك أعطى الله الإنسان العزم، والإرادة، والقوّة، والقدرة على المواجهة، وهو في الحقيقة قادر على ذلك.

6- التحمّل والصبر:

الإنسان يملك الطاقة على الصبر ولديه القدرة على ذلك، ولكن الأمر يرجع إلى قراره. كلّ إنسان يستطيع أن يصبر ويتحمّل الجوع، والعطش، والقتال، والجهد، يتحمّل الحروب، ويتحمّل الغربة. والصبر هو أهمّ سلاح في المواجهة، وخصوصاً في المواجهة مع إبليس، الصبر على ترك المعصية والشهوات والملذات، وعُدّ هذا من أعظم مصاديق الصبر في الفهم الديني والثقافة الدينية.

كلّ هذه الإمكانات موجودة، إذاً، لدينا لمواجهة إبليس: عقل، وهداية إلهية (أنبياء وكتب سماوية)، تراكم التجارب البشرية، حريّة الاختيار، الإرادة والعزم والقدرة، وأيضاً الطاقة على التحمّل والصبر. فما هي خطتنا كي نغلب إبليس ونجعله ييأس، ونطرده كما طرده الله تعالى؟

• إرشادات إلهية للمواجهة

إذا استفدنا من الإرشادات النبوية والإلهيّة، بالإضافة إلى التجربة البشرية، نستطيع حينها مواجهة إبليس وفق سبيل واضح من خلال:

1- اليقظة، الانتباه، عدم الغفلة:
الشرط الأول هو اليقظة؛ لأنّ هذه المعركة بيننا وبين إبليس تدور على مدار الساعة والدقيقة والثانية، وعلى مدار النَفَس، فيلزم الانتباه واليقظة وعدم الغفلة.

2- المراقبة والحراسة:
علينا أن نكون في حالة استيقاظ دائم، نراقب أنفسنا، نضع كافّة جوارحنا تحت المراقبة: عليّ أن أختار ماذا أقول، وأين أنظر، وماذا أسمع، وأين أذهب. أمّا إذا كانت طاقاتي وإمكاناتي، وجسمي وشهواتي، كلّها خارج المراقبة والحراسة، فليس معلوماً إلى أين نصل!

3- التطهير والتزكية:
كمثال؛ من المعلوم أنّ الحشرات تجتمع في الأماكن القذرة.. كذلك إبليس وجماعته كالحشرات، يحضرون في الأماكن القذرة. لذا، لكي لا نتصارع وإبليس طويلاً يكفي أن ننظّف المكان القذر، فيصبح إبليس بلا مكان يتربّص بنا فيه. إضافة إلى تطهير المكان، فاللصّ لا يسطو إلّا على المنازل المظلمة، وأفضل طريقة لمواجهته هي إنارة المنزل. وهذا يعني أن نحصّن أنفسنا؛ فإبليس يستغلّ الحسد مثلاً، أو الغضب، إذاً عليّ أن أروّض نفسي على تخفيف الحسد، وتهدئة نفسي. ويمكن ذلك بالاستعانة بكتب الأخلاق، والكثير من البرامج العبادية. وهذا أمر ممكن وليس مستحيلاً. والإنسان يستطيع أن يدرّب نفسه، ويهندسها، ويعجنها من جديد.

4- البيئة المحصّنة:
وهي قسمان: قطع الطريق على إبليس، مثلاً، تجنّب الخلوة بين الرجل والمرأة، فلا نعطي فرصة لإبليس، كالعديد من التصرّفات في حال تجنّبناها نقطع الطريق عليه.

إضافة إلى توفير البيئة المناسبة الصالحة المحصّنة لطرد إبليس. مثلاً، البحث عن الزوجة الصالحة، الرفاق الجيّدون، الأصدقاء الصالحون، هؤلاء يصلون بالإنسان إلى الله، يساعدونه ويحصّنونه ويعينونه على دينه، وعلى نفسه، وعلى شيطانه.

5- عمل الصالحات:
وهذا مذكور في الأحاديث، فقد أرشدنا الأنبياء إلى أنّ العمل الصالح يطرد إبليس. إبليس وجماعته يهربون من أفعال الطاعة وأماكن العبادة، ولا سيّما الصلاة؛ لأنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. الصلاة بخشوع، تطرد إبليس وتقطع عليه الطريق، وكذلك فعل الطاعات.

عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أخبركم بشيءٍ إنْ أنتم فعلتموه تَباعَدَ الشيطان منكم -يقول لأصحابه- كما تَباعَدَ المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وآله وسلم: الصوم يسوِّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله، والمؤازرة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه"(2).

6- الاستعانة بالله:
ومنها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، كأن نقول: العياذ بالله، فنكون كمن يلجأ إلى الله أولاً وآخراً، وهي من الاستعانة. أولاً وآخراً، ومع كل الخطوات، ومع كل الإمكانات التي لدينا، وفي أيّ برنامج نقوم به، الأصل فيه هو الاستعانة بالله سبحانه وتعالى، والاستعاذة بالله عزّ وجل، واللجوء إلى الله عزّ وجلّ، والثقة بالله سبحانه وتعالى، والتوكّل على الله؛ لذلك يقول تعالى عن إبليس: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (النحل: 99).

في هذه المواجهة إذاً، لدينا طاقات، ونعرف السبيل الذي أرشدنا إليه الأنبياء في مواجهة إبليس، فالمطلوب منّا أن نصمد ونصبر، وأن لا نصغي إلى وساوسه، ونُعمِل عقولنا، ولا نفتح له صدورنا وقلوبنا؛ ليزيّن لنا، ويكذب علينا، ويخدعنا، ويمنّينا. وعلينا أن نفهم ونعرف أن الفرصة ما زالت متاحة أمامنا للتوبة، وللاستغفار، وللإنابة، وللعمل الصالح. بالتالي نحن معنيّون بأن نخوض هذه المعركة بوعي وبانتباه، ومراقبة، وبالاستعانة بالله سبحانه وتعالى؛ حتّى نصل إلى مرحلة الثبات والتمكين والتحصين، ويرحل عنّا إبليس. هذا الأمر ممكن وهو ملك أيدينا.

•هذا الجهاد الأكبر
هذا ما يسمّيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الأكبر. إذاً المسألة بالنسبة إلينا جميعاً، هي أن الجهاد الحقيقيّ في معركة إبليس، وعلى ضوء هذه المعركة تُحسم كل المعارك. هذه الدنيا هي دار الاختبار، دار الابتلاء. من الممكن أن نسأل: لماذا أمهل الله إبليس ومدّ في عمره منذ آلاف السنين؟ علماً بأنه لم يعطه سلطة علينا، بل جعل هذا جزءاً من الابتلاء، ومن الامتحان. لم يخضعك الله لإبليس، بل أخضعك لعقلك، لإرادتك، لعزمك، لوعيك ولمعرفتك.

هذا هو الجهاد الأكبر الذي يجب أن نخوضه ولا نغفل عنه؛ لأننا لا نعلم متى يُنصب لنا الكمين، وأين يُقطع علينا الطريق. الإنسان عليه ألا يطمئنّ لتاريخه، لجهاده، لثقافته، لعلمه، لعمله الصالح، لثقة الناس به، كل هذا لا يُؤمَن له ولا يُركن إليه. رُوي عن الأئمة عليهم السلام ما مضمونه أنّ إبليس حين ارتقى إلى الأعلى، وصار في عِداد الملائكة احتاج إلى آلاف السنين من العبادة، لكنّه سقط في لحظة وليس بمئات السنين ولا بعشرات السنين، وكلّنا معرّضون لهذا السقوط وعلينا ألّا نغفل عن هذه الساعة التي من الممكن أن نسقط فيها.


(*) من كلمة سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)- ليلة الخامس من شهر محرم 1438هـ/ 2016م.
1."كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم، قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره". نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ عليه السلام، ص391.
2.الكافي، الكليني، ج4، ص62. والوتين هو عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع