الجهاد الأكبر
ذكرنا سابقاً أن الاتحاد هو العنصر الأساسي في حفظ الثورة والخط الجهادي. وبدون حفظ الانسجام والوحدة بين القوى والشرائح المختلفة للأمة لا يمكن الاستمرار في الثورة والجهاد. لذلك فإن كل أمة يقع فيها الاختلاف والتنازع محكومة بالهزيمة والوقوع في مخالب الأعداء والمستكبرين.
ولهذا، ينبغي أن نبحث في أسباب الاختلاف وعوامل الوحدة لتكون دروساً لكل الثائرين والمجاهدين في سبيل الله.
* كيف نحفظ الوحدة والانسجام؟
في نهج البلاغة نجد أمير المؤمنين عليه السلام يذكر أن الوحدة أمر طبيعي وفطري، وإن الإنسان قد خلق على أساس حب الآخرين والإخوة إذن، ما ينبغي أن نبحث بشأنه هو جذور الاختلاف وأسباب نشوئه.
في الخطبة الثانية عشرة بعد المئة يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وإنما أنتم إخوان على دين الله، ما فرق بينكم إلا خبث السرائر وسوء الضمائر، فلا توازرون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادون".
فهنا نجد أن الأخوة والاتحاد أمر واقعي بمقتضى الفطرة الإنسانية، أما الخبائث المعنوية التي تنشأ من سوء التربية، فهي التي تؤدي إن إيجاد كل بذور الاختلافات والشقاق.
وفي الخطبة القاصعة يقول عليه السلام: "واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم وأوهن منتهم من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي..".
وهكذا، فإن ما يبعث على الاختلاف بين العناصر والقوى المتعددة داخل الجسم الواحد هو تلك الأمور النفسية والأمراض الأخلاقية التي تعود إلى سوء العلاقة بالله سبحانه وتعالى وعدم طاعته.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنما بدء الفتن أهواء تتبع".
وفي مكان آخر، يقول عليه السلام: "الهوى أس المحن".
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد أن إتباع الهوى يعد مخالفاً لمقتضى العبودية الحقة: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ (الجاثية: 23).
واتباع الهوى لا يكون في الأمور المحرمة فقط، وإنما كل ما هو مخالف للتكاليف الإلهية وطريقها.
وفي معظم الأحيان، يتستر اتباع الهوى تحت عناوين إيمانية ظاهرية. فنجد الإنسان يتبع هواه متظاهراً بخدمة الإسلام، ولمصلحة المسلمين، ويكون في الواقع متجهاً نحو مقاصده النفسية ومآربه الخاصة. وربما يتصور هذا الإنسان المغفل أن مصلحة الإسلام تقوم على أساس وجوده وأفكاره، فيضحّي بكل شيء فداء لآرائه، ويتجاوز الآخرين تحت حجة معرفته.
من الصعب جداً أن يلتفت الإنسان إلى مثل هذه الأمراض المستعصية، إلا إذا خرج من عبادة الأنا وأخلص وجهه لله تعالى. لأن مقتضى العبودية الحقة أن يدع الإنسان كل وجوده ويهجر أنانيته بالكامل، وعندها، لن يبقى أي مجال لنفوذ الأهواء الشخصية.
لقد جسد أمير المؤمنين عليه السلام في سكوته الثوري طيلة 25 سنة من حكم الثلاثة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم أنموذج للفناء التام في ساحة العبودية الخالصة لله. إذ أننا لا نجد شخصية عظيمة كان لها ذلك الفضل المجيد والأيادي الباهرة في الإسلام وعلوه وانتشاره مثل أمير المؤمنين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولن نجد عبر التاريخ رجلاً كانت له مثل مواقف علي بن أبي طالب عليه السلام. (كموقف خيبر والأحزاب وبدر وأُحُد والمبيت وو...) وفي لحظة ما، ورغم اعتقاده التام بحقه بالخلافة وواجبه في حفظ الرسالة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنه سكت حفظاً للإسلام طالما أن المسألة لم تتعداه شخصياً.
عندما ندرك أن اتّباع الهوى منشأ كل المفاسد. يصبح جهاد النفس هو الجهاد الأكبر. لأن مجاهدة العدو تمنعه من دخول الأرض والبلاد، أما جهاد النفس فإنه يحفظ الأهداف الأصلية للثورة ويضمن إجراء الأحكام الإلهية ويصون عالم المعنويات الذي جاءت رسالة الإسلام لإتمامه: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وقد قال علي عليه السلام: "إعلموا أن الجهاد الأكبر جهاد النفس فاشتغلوا بجهاد أنفسكم تسعدوا".
فلنعلم أن الانتصارات الظاهرية التي هي توفيقات إلهية يمكن أن تتحول إلى عوامل انحراف وفساد كبيرة إذا أدت إلى نشوء الغرور والاعتداد بالنفس، وحب الاستعلاء.
وما أكثر ما يصاب العاملون والمجاهدون بمثل هذه الأمراض إذا لم يلتفتوا إلى أنفسهم، ويتعرفوا على حقيقة التوحيد ويطبقوه على أنفسهم. قال الله سبحانه وتعالى لنبيّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾.
وفي هذه الآية أعظم درس للعاملين والمجاهدين، ليعرفوا أن كل الانتصارات والتوفيقات إنها هي عنايات الرب المتعال أجراها على أيدي عباده ليشكروه ويسبحوه، ويدركوا من خلالها ذل عبوديتهم وفقرهم إليه.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "لو اجتمع كل الأنبياء والرسل (وعددهم أكثر من مئة ألف) في زمان ومكان واحد لما اختلفوا". لماذا؟
لأن هؤلاء العظام عليهم السلام قد تخلوا عن كل الأنانيات وانقطعوا عن كل ما عدا الله فجمعتهم الأهداف الكبرى وساروا في صراط الله المستقيم. أما أهل الدنيا فإنهم متنازعون دوماً، وكما قال الإمام أيضاً: "اعلموا أن كل مشاكلنا من أنفسنا" وقال: "إن منشأ كل الاختلافات إنما يعود إلى حب الدنيا" وهذه الحقيقة تظهر يوم القيامة جليّة واضحة كما قال عز من قائل: ﴿الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين﴾.
* خطر التيارات الالتقاطية
الالتقاطي ظاهرة خطيرة تهدد الثورة الإسلامية والخط الجهادي وهي تعني مزج الأفكار الانحرافية بالفكر الإسلامي تحت عنوان الإسلام، كما حدث في عالمنا الإسلامي، وبالأخص في مصر التي انفتحت على الغرب وأفكاره قبل أي بلد إسلامي، وخرج منها مفكرون كثر يدعون إلى تجديد الإسلام أو تقديمه بأسلوب حديث. وقد انتقلت مثل هذه الأفكار عبر الكتب والمجلات وشتى أنواع وسائل الإعلام، وصرنا نسمع بالإسلام الاشتراكي أو الإسلام الرأسمالي أو الإسلام الحر.
ولم تكن مثل هذه التيارات جديدة على الإسلام أو إنها من موروثات الحاضر، وإنما تعرض الإسلام المحمدي الأصيل لحملات تشويه كثيرة بدءً من انتقال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وليست ظاهرة "حسبنا كتاب الله" إلا تعبير عن بدء سريان الأفكار الخاصة لتحمل على الإسلام، وليس شعار "إن الحكم إلا لله" إلا صورة واضحة لاتساع رقعة التيارات المعوجة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجلاً... يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان".
وخطورة هذه الظاهرة أنها تأتي تحت عناوين برّاقة، وتقدم للمسلمين على أنها الإسلام الصحيح. ولذلك نجد الإمام قدس سره يؤكد على الفصل بين الإسلام المحمدي الأصيل والإسلام الأمريكي، ويبين خطورة الأفكار الالتقاطية فيقول:
"إن الإسلام مدرسة غنية لا تحتاج إلى أية ضميمة من المدارس الأخرى، وعلى الجميع أن يعلم أن الفكر الالتقاطي خيانة كبرى للإسلام والمسلمين، وسوف تظهر نتيجة هذا النوع من الفكر وثمرته المرّة في السنوات المقبلة. وللأسف الشديد أحياناً نجد البعض يمزج بعض القضايا بالأفكار الماركسية نتيجة عدم الفم الصحيح والدقيق للقضايا الإسلامية الراقية".
ومن خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام في وصف الإسلام: "... ثم جعله (أي الإسلام) لا انفصام لعروته، ولا فكّ لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء لشرائعه ولا جذ لفروعه، ولا ضنك لطرقه... ولا عوج لانتصابه".
لذلك، فإن وظيفة الجميع هي عدم السماح للأفكار الالتقاطية بالنفوذ إلى ساحة المجاهدين، ومنع كل من يتستر بالصلاح والدين من القاء الأفكار التي تؤدي إلى تشويه المفاهيم الأصيلة للإسلام.
على العلماء المجاهدين أن يقفوا سداً منيعاً أمام التيارات المضللة، ويرصدوا كل أشكال الأفكار من خلال الدراسات الميدانية والمطالعات الواسعة لأن دأب الأفكار التسلل إلى عقول أبناء الأمة من خلال الدعاية الواسعة والتلفزيون والمناهج المدرسية والجامعية. ولم يعد مقبولاً أن تواجه مثل هذه الأفكار بالطريقة القديمة. فبينما نحن نشكل واحداً يفرقون ألفاً.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس منه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه. ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب حملتُه، وتناساه حفظتُه. فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيان. وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويها مؤوٍ. فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم. لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا".