تحقيق: نجوى ياسين
"أنتَ الآن تقف على مشارف الجنّة، أنتَ الآن مستقرٌّ ما بين
الدنيا والآخرة". هذا ما ردّده سماحة السيّد القائد عليّ الخامنئيّ دام ظله على
مسمع أحد الجرحى أثناء لقائه به.. والقائد هو سيّد الجرحى ومواسيهم بجراحه، التي لم
تمنعه عن قيادة أمّتنا الإسلامية في زمن غيبة صاحب عصرنا وزماننا عجل الله تعالى
فرجه الشريف. فكيف يقف الجريح بين الدنيا والآخرة؟ وما هي أول ردّة فعل له عندما
يدرك أنّه فقد جزءاً منه؟ هل يتوقف أم يبدأ مع الجراح قصةَ جهاد من نوع آخر؟! وكيف
تشاركه عائلته هذا الجهاد المبارك؟ أسئلةٌ سألناها لبعض المجاهدين الجرحى، لنحاول
أن ندرك كيف يقفون على مشارف الجنّة.
* كان مُبصراً فبات بصيراً
يستقبلك ببسمته التي تحيي القلوب. للوهلة الأولى إذا بحثت في تقاسيم وجهه لن تجد
سوى نور البصيرة يشعّ من عينيه دون أن تعلم أنّه كفيف. تطالعك الطمأنينة في
حديثه... إنّه الجريح "علي حمدان" الملقب بـ"جواد": "كنت أتوقّع في أيّ وقت الجراح
أو الاستشهاد، فنحن سائرون إلى آخر هذا الطريق بكامل إرادتنا"؛ بهذه الروحيّة
الجهادية الخالصة لله تعالى يستحضر "جواد" قصة جراحه في أيام الحصار على جنوب
لبنان، حيث كانت مهمته تفكيك ألغام آنذاك، وقد تسبّب انفجار لغم بفقدان بصره، "كنتُ
أحس بالألم؛ لأنّ الإصابة قد أفقدتني بصري وأثرت في مجرى التنفّس وبعض أعضاء جسدي".
تزامنت جراح الأخ "جواد" مع ولادة ابنته فاطمة الزهراء التي ولدت قبل خمسة أيام من
إصابة والدها. وبسبب الحصار لم يستطع الحضور عند الولادة. عن لقائه الأوّل مع طفلته
يقول: "في المستشفى أتت بها زوجتي فصرت أتلمّسها وكأنني أودّ أن أقول لها:
افتخري يا عزيزتي فوالدك صار جريحاً". وعندما توافد الأهل والأقارب لزيارته في
المستشفى وقد استولى الحزن عليهم كان يصبّرهم بكلماته المطمْئِنة: "واسيتُ أبا
الفضل بعينيّ، ومن يرضَ بقضاء الله يرضَ منذ لحظة نزول البلاء". ما يظهر في
حديث الجريح جواد حزنه على عدم استطاعته المشاركة مجدّداً في ميدان الجهاد بسبب
الجراح. نستلهم من حديثه دروساً زاخرة بالعطاء؛ إذ يقول لنا: "إن المسألة الأساس هي
الرضى بقضاء الله وقدره؛ فالجريح بجراحه إذا ثبت على النهج تغفر ذنوبه في الدنيا،
ويرفع الله تعالى شأنه يوم القيامة، لأنّه يكون قد وصل إلى مرحلة تدور حوله
الشهادة، لكنّ الله عزّ وجلّ أجّلها بحكمته، لذلك يسمونه بالشهيد الحي".
* عريس الجرحى
كسائر الورود المتفتحة من بلسم الجراح تغدو الابتسامة كلّ محيّاهم؛ إذ تطالعك بسمة
نورانيّة، لم تفارق وجه الجريح "علي ياسين" طوال حديثنا معه، الحديث الذي استهلّه
بالكلام عن إحساسه الذي كان يراوده بأن شيئاً ما سيحصل معه في مشواره الأخير؛ إذ
ودّع أهله وداع المجاهد الذي سيعود شهيداً، لكن الله عزّ وجلّ اختاره في ركب
الجرحى، لا الشهداء. يروي: "تعرّضتُ في عملي لقذيفة مباشرة، فوقعت على الأرض، وبدأت
أشعر بألم في قدميّ، فصرت أصرخ: يا زهراء، وفقدتُ وعيي، استيقظتُ وكانوا قد أجروا
لي عمليّة لبتر ساقي، وبعد الإصابة بأربعة أيام جاؤوا بي إلى بيروت".
تكلّلت جراح "علي" بعقد قرانه على "دانا" في المستشفى؛ وذلك بناءً على طلب والدها.
وكان ذلك بمثابة رسالة للعدوّ بأننا مستمرّون رغم الجراح. ويضيف عريس الجرحى أن
"أجمل هدية حصلنا عليها هي القرآن الكريم من سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
وقد أرسله إلينا بمناسبة عَقد قراننا".
وعن العلم يسأل "علي" التوفيق من الله لمتابعة دراسته في اختصاص العلوم الاجتماعية
والمحاسبة، ويؤكد أنه من هنا سوف يكمل مسيرته الجهادية مردداً: "حيث يجب أن نكون
سنكون". ويخبرنا عن شغفه بمطالعة قصص الجرحى والشهداء قائلاً: "لطالما كنت أقرأ
مجلة بقية الله لما فيها من مواضيع تهمني".
ويختم كلامه بالقول: رسالة الجراح التي رفعنا رأسنا بها يجب أن ننقلها إلى الناس،
فنحن لأجلهم بذلنا هذا كلّه، فهم أشرف الناس.
* جراحٌ تُنبت الأمل
وعى قلبه القرآن الكريم منذ صغره، فنشأ في محافل تلاوته، وكان الملبّي لسيرة أهل
البيت عليهم السلام في قراءة المجالس الحسينية، وتكامل ذلك مع عمله الجهادي ثابتاً
على نهج الحسين عليه السلام وأهل بيته، ذاك هو الجريح "شبير زعيتر".
كان "شبير" ضمن مهمّة عسكرية في منطقة الزبداني، ولدى اجتيازه منطقة خطرة أصابته
رصاصة القناص الحاقدة... يصف "شبير" لحظة الإصابة بالقول: "في اللحظة الأولى
ظننتُ أنّي سأستشهد، فدعوت الله أن تحضر مولاتنا فاطمة الزهراء والإمام الحسين
عليهما السلام في آخر لحظات حياتي. بعدها علمتُ أنّي أصبحتُ جريحاً"؛ إذ أصيبت
قدماه بالشلل وكُسرت يده اليسرى. وعند تلقي الأهل نبأ إصابته كانت والدته أكثر أهله
تصبّراً، وكان "شبير" يشدّ على أيديهم ويقول: "إنّني الآن في موقف قوّة لا ضعف، فلا
يجب الأسى والحزن في هذه الحالة".
يضيف شبير: "إن هذا الوضع الجسدي للجريح هو عناية ورحمة إلهيتان تستمران معه في
أدقّ تفاصيل حياته، فيتكفّله الله وييسر له أموراً ما كانت ستتيسّر في غير هذا
الموضع، وبالتالي فإنّ أساس البنيان المعرفيّ والفكريّ عند الجريح هو ما يؤهّله
لمعرفة فلسفة الجراح، وما تعني قيمة هذه الجراح أولاً، ولماذا اختارني الله لأكون
جريحاً ثانياً، وأخيراً كيف يمكن أن أحافظ عليها، وأكون على قدر المسؤوليّة التي
كنت عليها قبل الجراح".
وعن رسالة الجراح، يتابع شُبير: "إنّ الله عزّ وجلّ يختار الجريح ليكون مثالاً
للمجتمع بجراحه، لذلك يجب أن لا تقيّده الجراح. فالعدوّ عندما يصيبنا، يكون هدفه أن
نجلس ونرقد، فلا يجب أن نحقّق له هذا الهدف. الجريح عامل محفّز للآخرين، وهنا تقع
المسؤوليّة تجاه الاستمراريّة، ليكون بذلك حجّة على المجتمع".
يستذكر "شبير" دعاء سماحة الأمين على الدماء له، والذي كان بمثابة هدية سماوية
ثمينة عنده، فالسيّد بالنسبة إليه الأب الروحيّ للجرحى والمجاهدين. ويجدّد "شبير"
العهد لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف بالقول: "الحياة بلا أمل هي
حياة مظلمة، والإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أملنا، وبظهوره سيتحقّق
العدل الإلهيّ. فلعلّ وعسى يمسح بيديه الشريفتين على جراحنا ويعافينا لنستمرّ تحت
لوائه ونكون جنوده ومن المستشهدين بين يديه..".
وعن استمراريّة مسيرته العلميّة فقد أنهى "شبير" مرحلة الإجازة في التمريض قبل شهر
من إصابته، وهو الآن يدرّس في معهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يقول:
"قدوتي الأخ العزيز الجريح حسين المقداد، الذي درس في أكثر من اختصاص، وهو يكمل
الآن رسالة الدكتوراه، وكان بمثابة نموذج وقدوة لنا جميعاً". فكان الجريح المقداد
المحطة التالية.
* جهادٌ بإصبعيّ الرحمة
كان بينه وبين الشهادة طرفة عين، لكنّ الله تعالى اختار له منزلة الشهيد الحيّ، ذاك
هو الجريح "حسين المقداد" الذي حمل رسالة جراحه من أكناف بيت المقدس.. كان "حسين"
قد ذهب لتنفيذ عملية استشهادية في فلسطين المحتلّة، وكان من المقرّر أن يتمّ تفجير
العبوة التي جهّزها، إلّا أنّه لم يعلم لماذا انفجرت به قبل أوانها، فاستيقظ بعد
شهر ليجد نفسه في المستشفى في فلسطين المحتلّة، فاقداً بصره وقدميه ويده اليسرى،
فيما بقي له إصبعان فقط من يده اليمنى وفقد حاسّتي الذوق والسمع. وقد أفرج عنه بعد
سنتين تقريباً أثناء عملية تبادل أشلاء الجنود الصهاينة الذين قُتلوا في أنصارية
عام 1996م.
عن تأقلمه مع جراحه يردّد حسين بكلّ فخر: "إنّني أعتز بهذا الوسام، وأسأل الله أن
يكون طريق عبوري إلى الآخرة؛ فالجريح إذا صبر فإنّ جراحه بطاقة عبور له إلى الجنّة،
ولكن يجب عليه أن ينتبه، فلربّما تسبقه أعضاؤه إلى الجنّة ويتملّكه الغرور والرياء
والتكبّر لا سمح الله، فلا يذهب هو". لم تمنع الجراح "حسيناً" من إكمال مسيرته
العلمية فقد كان حلمه متابعة دراسته في اختصاص إدارة الأعمال؛ وبعد إصابته أصبح
لديه الوقت الكافي لتحقيق هذا الحلم، وخصوصاً مع وجود التقنيات المعاصرة، التي
ساعدته على تخطّي حالته، فحسين يتواصل مع عالمه عبر إصبعين فقط في يده اليمنى، يكتب
ويتواصل بهما، ويعتني بأموره قدر المستطاع في حركته على الكرسيّ النقّال. ومع كل
الوظائف الجسدية التي تعطّلت، أثبت هذا المجاهد الحسينيّ أنّ الإرادة أقوى من
الجسد، فحاز بصبره ومثابرته رسالة الماجستير في الإدارة، وينوي أن يتابع -بعون
الله- لنيل الدكتوراه، والانتقال إلى دراسة الأدب العربيّ.
اختار جريح بيت المَقدس أن يوجّه تحية للأمين على الدماء السيد حسن نصر الله (حفظه
الله) قائلاً: "نسأل الله تعالى أن يتحقّق حلم الشهداء والجرحى على يديه، وهو
تحرير فلسطين المحتلّة من أيدي الأعداء، فقد زرعت بعض أعضاء جسدي هناك". وكان
صاحب العصر والزمان حاضراً في ذكره وكلامه، فقال: "هو الأب الحنون لنا وعلاقته بنا
كالأب الحنون وعزاؤنا في هذه الدنيا أنه حاضر وموجود، كما القائد الجريح الذي
يواسينا أيضاً، فالجرحى يواسي بعضهم بعضاً".
غدير وهديل هما ثمرتا زواج حسين، الذي يردّد شاكراً الله تعالى على تلك النعمة:
"الحمد لله أعيش مرتاحاً جداً، وراضياً بقضاء الله وقدره، وأقدّر لزوجتي هذه
الشجاعة، فالمرأة التي تختار جريحاً تكون مضحية بكل ما للكلمة من معنى". أمّا زوجته
فقالت: "زوجي الجريح قدوة لي وللناس، وأشعر أنّني بحاجة إلى الروحيّة والمعنويّات
العالية الموجودة عنده، فقد تعلّمت منه الصبر والعزيمة، أحمد الله أنّه وفّقني لنيل
هذا الشرف العظيم". كما وأحبّت زوجة الجريح حسين أن توجّه توصية عبر منبرنا لكلّ
أخت بقولها: "وصيتي لكلّ أخت مجاهدة اختارت حياتها مع أحد الجرحى المجاهدين أن تكون
صابرة محتسبة، تتطلّع إلى أجرها في الآخرة، وأن لا تغريها مظاهر الدنيا الفانية.
ومن تعشْ مع إنسان جريح تشعرْ وكأنها تعيش في الجنة".
أراد الجريح المقداد في الختام أن يوجّه من جرحه رسالة فقال: "إنّ الإنسان عندما
يصاب ويستشهد تنتهي مهامّه، أمّا الجريح فهو مع كل ألم ومعاناة من جراحه شهيد حيّ،
لكن بالصبر ينال أجر الشهادة، فجراحه هي شهادة متجدّدة".