"نحن هنا نتحدّث عن جرحى المقاومة، عن الجراح التي لم تنزف صدفةً، وإنّما نزفت بقرار وإرادة وبحريّة واختيار.. نتحدّث عن الأبدان والأرواح التي كانت تملأ كلّ ساحات الجهاد والعطاء والعمل". سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
إنّ "جريح" هذه المقاومة واحد من أوفياء مسيرة الوعي الّتي يؤمن بها، وفدائيّ تخطّ
قدماه أرض الجهاد بكلّ ثقة بأنّ ما بين هذه الحفرة وتلك سيرقد جسد وتحلّق روح. فلا
يرقد الجسد ولا تستقرّ الرّوح.. إنّما يشي الجرح بالحبّ، ويكشف الغطاء.
"مؤسّسة الجرحى" إحدى أهمّ محطّات التراب العنيف الذي طبع على الأجساد العابقة
برائحة البارود، منذ بداية قيامة الأرواح حتّى خروجها. وفي هذا التقرير نسلّط الضوء
على "مؤسّسة الجرحى" في محطّاتها كافّة، إنجازاتها، تفوّقها في ما يخصّ المراكز
التأهيليّة... من خلال مقابلة مع مدير عام المؤسّسة الحاج محمد دكروب ومسؤول
الإعلام والعلاقات العامّة الجريح الحاج عماد خشمان.
* تاريخ المؤسّسة
"الرعاية الإلهيّة رافقت هذه المؤسسة، لتلبّي الحاجة كما هي الآن". هكذا وصف الحاج
"دكروب" بداية عمل مؤسسة الجرحى. ويضيف: "انطلقت رعاية الجرحى والمعوّقين جرّاء
الإصابات التي تعرّض لها مجاهدو المقاومة الإسلاميّة، بموازاة انطلاقة المقاومة
ونهوضها في مواجهة الاحتلال الصهيونيّ عام 1982م، بنمط رعائيّ شمل نواحي الحياة
اليوميّة لهؤلاء المصابين، والجرحى، من أبناء الشعب اللبنانيّ جرّاء العدوان
الإسرائيلي المستمرّ.
وفي العام 1992م، نالت مؤسسة الجرحى العلم والخبر تحت رقم 5/ أد بمرسوم جمهوريّ
2900 تاريخ 31/10/1992م، تحت اسم "الجمعية الخيرية لمساعدة جرحى ومعوّقي الحرب في
لبنان"، وأصبحت تُعرف باسم "مؤسّسة الجرحى" لتشقّ بذلك طريقها، ولتعمل على توسيع
إطار رعايتها، ليشمل جرحى المقاومة والاعتداءات الصهيونية إلى أيّ جهة أو منطقة أو
طائفة انتموا. وقد بلغ تعدادهم حتى نهاية العام 2014م، 7724 جريحاً (منهم 420
جريحاً أصيبوا جرّاء الألغام التي زرعها العدوّ الإسرائيليّ، والعشرات من مصابي
القنابل العنقوديّة 2006م)، بالإضافة إلى 4460 جريحاً تماثلوا للشفاء".
* أهداف المؤسّسة
تتطلّع المؤسّسة منذ انطلاقتها إلى تحقيق مجموعة أهداف، وضّحها الحاج دكروب بقوله:
"منها تأمين العلاج والاستشفاء للجريح منذ اللحظة الأولى لإصابته ومتابعته داخل
لبنان وخارجه، وتأهيل الجرحى، وتنمية الكفاءات والمهارات والمواهب لديهم وتطويرها".
وعن مستقبل الجريح بعد هذه الرحلة معه، أخبرنا الحاج دكروب: "الكثير من الإخوة
الجرحى الذين عانوا من الإصابات، بعد التأهيل عادوا مجدّداً لميادين المواجهات في
وجه العدوّ الإسرائيليّ، بعضهم أصيب مجدّداً، وبعضهم استشهد بعد الجراح. كذلك الأمر
في مواجهة العدوّ التكفيريّ. الأسماء كثيرة واللائحة تطول!".
ويتابع عن مهام المؤسسة: "وتقدّم المؤسّسة الرّعايةَ والتّأهيل والخدمات لمختلف
أنواع الإصابات، سواء كانت إصابات شديدة (شلل، بتر طرف أو أكثر، نفسيّة...)، إصابات
متوسّطة وإصابات خفيفة. وهي لا تهتمّ بالجريح فحسب، بل بعائلته والدّائرة المحيطة
به، لتعزّز الاحتضان العائليّ الذي هو جزء أساس من عمليّة التّأهيل والشّفاء من
الإصابة".
* رحلة العلاج
رافقنا للتعرّف على رحلة العلاج مسؤول الإعلام والعلاقات العامّة للمؤسسة "عماد
خشمان" الذي ينتمي إليها قلباً وقالباً، وعمراً من الجهاد الذي وُقّع على جسد
المقاتل العتيق.
يُعدّ مبنى المؤسّسة من حيث مراكزه التأهيليّة الأوّل من نوعه على صعيد المنطقة، من
حيث العناية والإمكانات، والمعدات الحديثة، حيث تضمّ عدداً من العيادات المتخصّصة:
عيادات طبّ تخصّصيّ (جراحة عظم، جراحة أعضاء، أعصاب ومسالك بوليّة)، عيادة الطب
الفيزيائيّ والتأهيل، وعيادة الطب النفسيّ.
وقد ضمّت مؤخّراً مركزاً للعلاج بالأكسجين، يُعدُّ الأوّل في لبنان من حيث التّجهيز
والاستخدام.
يشرح خشمان: "تمتلك مؤسّسة الجرحى منذ التسعينيات مراكز علاج فيزيائيّ ومركز أطراف
صناعيّة. أمّا تطوّر البرامج التأهيليّة والتخصّصات المتعلّقة بالتأهيل فكانت ترافق
عمليّات التطوير. فبعد حصول دمار لعدد من مراكز المؤسّسة في بيروت بسبب الحرب
الإسرائيليّة 2006م، انطلقت المؤسسة للمبنى الجديد في 2010م - 2011م، وبدأت فيه
عمليّة تعزيز المركز التأهيليّ، وتطوير المعدّات وزيادة الكادر البشريّ إلى العديد
من التفاصيل"، ما أفضى إلى إنشاء:
1- مركز العبّاس عليه السلام للأطراف الصناعيّة والأجهزة التّقويميّة: الذي
يقوم بتصنيع وتركيب أطراف صناعيّة مختلفة ومتطوّرة للجرحى ولضحايا الألغام.
2- مركز العبّاس عليه السلام التخصّصيّ للتأهيل: يعمل على تقديم مختلف العلاجات
الطبيعيّة والتأهيليّة بأحدث المعدّات والتقنيات. يشمل هذا المركز: العلاج
الفيزيائيّ، والعلاج الانشغاليّ، العلاج الرياضيّ وعلاج النطق.
إضافة إلى مركز العلاج النفسيّ والإرشاد الاجتماعيّ الذي يقوم بتنفيذ جلسات العلاج
النفسيّ بأنواعه المختلفة (الفرديّ، العائليّ..) عبر أخصّائيّين من ذوي الاختصاصات
والخبرة في مجالَي الطّب والعلاج النفسيّ، إضافة إلى مركز العلاج أوكسجين المجهّز
بمعدّات حديثة جدّاً، يساعد هذا المركز في تسريع عمليّة شفاء الجروح والقروح
أوكسجين.
* الرّعاية الاجتماعيّة والتربويّة
ارتكزت رعاية الجمعيّة للجرحى على أسس ونظريّات اجتماعيّة متطوّرة تقوم على تأمين
كلّ مستلزمات الجريح داخل أسرته وبيئته. وقد باشرت الجمعيّة العمل على إنشاء مشاريع
في المناطق اللّبنانيّة كافّة ضمن خطّة مدروسة لتوفير مستلزمات العلاج والرّعاية
والتّأهيل والتّرفيه أيضاً. كما تقوم الجمعيّة بتأمين الإمكانيّات اللّازمة
للتّحصيل العلميّ الأكاديميّ والمهنيّ لأبناء الجرحى، كما وتقيم مؤسسة الجرحى
احتفالاً سنويّاً مركزيّاً في الرابع من شعبان بمناسبة ولادة أبي الفضل العبّاس
عليه السلام "يوم الجريح المقاوم" برعاية سماحة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن
نصر الله (حفظه الله) حيث يلقي كلمة فيه يبارك للجرحى جهادهم وصبرهم وتضحياتهم.
* بيت الجريح
بيت الجريح الحرفيّ التراثيّ كان أحد التطلعات التي كانت ترنو إليها المؤسّسة وبدأ
تنفيذه سنة 2001م، حيث أنشئ معهد وبيت الجريح التّقنيّ والحرفيّ التّراثيّ، ليكون
واحة لقاء يرِدها الجرحى لممارسة هواياتهم الحرفيّة، وليتزوّدوا ببعض المعارف
والتّقنيّات العلميّة والعمليّة. وقد عملت إدارته على إعداد وتنفيذ العديد من
الأنشطة التّدريبيّة المهنيّة والحرفيّة للجرحى وعائلاتهم، في مجالات مختلفة.
* الصعوبات والتحدّيات
"مؤسّسة الجرحى بإدارتها والعاملين فيها وتحت إشراف الإخوة في (قيادة حزب الله)
تعمل وتبذل الجهود لمواجهة التّحديات وتطوير البرامج والخدمات للإخوة الجرحى
وعائلاتهم". يقول الحاج عماد خشمان عند السّؤال عن التّحدّيات الّتي واجهتها
الجمعيّة في مسيرتها: "أوّلها غياب مؤسّسات الدّولة في تقديم الرّعاية القيّمة
للجرحى والمعوّقين في لبنان، وخاصّة جرحى ومعوّقي الاعتداءات الإسرائيليّة، كذلك
جرحى المقاومة في مواجهة الاحتلال، أو جرحى التصدّي للتكفيريّين، أو جرحى
الاعتداءات والتفجيرات الإرهابيّة التي قام بها التكفيريّون. رغم هذا تعمل المؤسّسة
على تجاوز وتذليل العقبات لتقديم الأفضل للإخوة الجرحى".
* في ظلّ الحرب الأخيرة
في الحرب مع التكفيريّين كانت التّحضيرات موجودة، والمؤسّسات قائمة والمراكز حاضرة
ومستعدّة، يتابع خشمان: "ما عملنا عليه كان تطوير هذه الخدمات، وفقاً للحاجات الّتي
استجدّت على مستوى نوعيّة الإصابات ومستوى الحاجات التّأهيليّة وتطويرها.
إنّ حصد النّتائج، وآثار برامج التأهيل تظهر على العديد من الجرحى والمصابين من
الإخوة والأهل الذين أصيبوا جرّاء التفجيرات من حيث سرعة الاستجابة للتّأهيل، وسرعة
الشّفاء من الإصابة لدى بعض الحالات".
للحقّ.. إنّ زيارة هذه المؤسّسة كزيارة أحد البيوت الدّافئة، فمعاينة المكان
تُشعر بكمّ الودّ الذي يحمله أهله، الجميع شرب من كأس ماء واحدة.. الجرح الذي نزفه
القلب تتشاركه أعضاء البدن كافّة، وتتلقّاه الرّوح.. نحن لا نعلم كيف يحيا هؤلاء
القوم! لا ريب في أنّهم هم الشّهداء الأحياء.
تقرير: كوثر حيدر