الشيخ محمد خاتون
لم تكن مجموعة الخصال التي وُجدت في شخصية السيد عباس الموسوي قدس سره قد بُعثت فيه فجأة وبلا مقدمات، بل إن هذه الأخلاق لكريمة كانت تعيش في داخله منذ أن كان طفلاً يتنقل في طفولته بين موطنه الأصلي في النبي شيت في اليقاع وبين السكن الفعلي لأهله في منطقة الشياح في ضاحية بيروت الجنوبية والتي كانت الملاذ لكثير من أهل البقاع والجنوب الذين اضطرتهم مشكلات الحياة إلى النزوح إلى العاصمة من أجل تحصيل لقمة العيش.
وبين بيروت التي كان يعيش فيها طفولته في الشتاء... وبين البقاع، وبالتحديد بلدة النبي شيت التي كان يقضي فيها الصيف والمناسبات... تمكن أن يبني لنفسه منهج حياة... فهو قد نشأ في بيت متدين ملتزم تعرَّف من خلاله إلى نور الإسلام الذي ملأ قلبه حتى أنار طريقه إلى النهاية...
ولم يكن الذين تعرَّفوا إليه وصادقوه وأحبوه يعلمون عنه من الصفات إلا تلك الصفات التي عرفها عنه كل الناس فيما بعد والتي اكتسبها من خلال فهمه للإسلام وعيشه له، فهو وإن كان طفلاً إلا أنه يفكر بعقل الإنسان الواعي الكبير.. لقد كان يلعب كبقية أقرانه ولكن لم كن اللعب ليأخذ منه كل وقته بل يعطيه ما يستحق من الوقت بحسب حاجات ذلك "الطفل" آنذاك... وهذه المزايا كانت حديث الأقارب والناس الذين عرفوا السيد في ذلك الوقت... ولئن لم يُقدَّر لنا أن نتعرَّف عن كثب على تلك المرحلة المهمة من حياته الشريفة فإن سيرة السيد عباس طفلاً كانت موجودة على لسان أقرانه وأقربائه... ويتحدثون بها على أنها أمر متواتر وثابت ولا غبار عليه. لقد تمكن هذا "الطفل" وببساطة أن يكوِّن شخصيته المميزة بدءاً من اهتمامه بالقضايا الكبيرة وعيشه لها إلى علاقاته بأصناف الناس وكأنها مقدمة لأمر كبير سوف يقوم بتحمل أعبائه... إلى ثقة عالية بالنفس نابعة من ثقة كاملة باللَّه تعالى... إلى اعتقاد بأن التقدم إلى الأمام لا يمكن أن يحصل من خلال الآخرين وإنما الإنسان هو صاحب حركة التغيير في المجتمع ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. لقد تعلم في المدرسة، واكتسب فيها شيئاً من العلم.. ولكنه لم يعتمد على ذلك وحده في حياته، بل إن ما تعلّمه من مدرسة الحياة واكتسبه كان أكبر بكثير مما يمكن لمدارس التعليم أن تعطيه لإنسان أو لمجموعة من الناس.
ـ لقد تميزت هذه الشخصية بمجموعة مميزة من الأوصاف التي ينبغي أن يتحلّى بها القائد ليأخذ بمجامع القلوب وليكون له دوره المميز على مستوى قيادة الأمة الإسلامية من خلال هذه المواصفات عبر ذلك المجاهد الفذ ليصل إلى قلوب المؤمنين.
لقد تميزت هذه الشخصية بمجموعة مميزة من الأوصاف التي ينبغي أن يتحلّى بها القائد ليأخذ بمجامع القلوب وليكون له دوره المميز على مستوى قيادة الأمة الإسلامية من خلال هذه المواصفات عبر ذلك المجاهد الفذ ليصل إلى قلوب المؤمنين
ملف
* أولاً خلق كريم:
وهذا الخلق ليس عبارة عن مفردات تذكر في المناسبات وليس موضوع الأخلاق عندما نريد أن نصنّفها في خانة المميزات هو مجرد وصفٍ يضاف إلى غيره من الأوصاف لقد كان الخطاب لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله قد أشار إلى هذا المعنى حيث يقول اللَّه تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾. وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: "آلة الرئاسة سعة الصدر. ومن كان يعرف السيد الشهيد يرى نفسه أمام رجل هو مصداق حقيقي لهذا الكلام الإلهي "فهو لا يخرج عن طوره لا من خلال محاورة مع شخص ولا من خلال إساءة قام بها شخص بحقه مهما كانت هذه الإساءة كبيرة ومن خلال معرفتنا الوثيقة به طيلة 15 عاماً لم نره يوماً إلا ممن يرد الإساءة بالحسنى كما يقول اللَّه تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، لقد كان هذا السيد حقيقةً مصداقاً لهذه الآية المباركة وعاملاً بها حق العمل. إن إحدى مميزات الكلام ليكون مؤثراً هو أن يكون نابعاً من القلب ولكي يكون كذلك ينبغي أن يكون صادراً من موقع الرحمة للإنسان المخاطب وليس من موقع تسجيل انتصار على ذلك الإنسان وهذا ما كان يميز كلام وأفعال سيدنا الشهيد رحمه اللَّه سواء كان في معرض الخطاب أم الحديث أو المحاورة والرد على سؤال فهناك هدف وضعه أمامه وهو هداية الطرف الآخر إلى جادة الصواب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإذا لم يتمكن من أن يصل إلى ذلك فهو على الأقل يعمل بأخلاق اللَّه تبارك وتعالى وهذا فعلاً ما كان يشعر به أولئك الذين خاطبهم من على المنبر أو تحدث إليهم أو حاورهم أو ردّ على أسئلتهم وهذه ميزة لا يتعلمها الإنسان في مدرسة أو في معهد بل هي ناشئة من توفيق اللَّه تعالى لمن أرادها وأخلص في طلبها، ويجب أن يعتني بها كل عامل في سبيل اللَّه مهما صغر حجم المسؤولية التي يضطلع بها وتزداد أهميتها كلما زادت المسؤولية وكبُر حجمها، ولم يكن السيد الشهيد قدس سره ممن ينتظر الآخرين حتى يفتح لهم الطريق إليه أو يسألوه أمراً أو أن يقوموا بأي عمل يمكن أن يعبّر عن حاجة في صدورهم بل كان هُو المبادر إلى السؤال لعله يتمكن من إزالة الحزن من وجه إنسان أو المساهمة في قضاء حاجة إنسان آخر وفي كل ذلك يشعر الجميع منه الحنان الأبوي بكل معانيه، وكان تعبيراً حقيقياً عن قول أهل البيت عليهم السلام: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم".
هذه هي إحدى ركائز القيادة لكن لا بمعنى أن تتحول الأخلاق إلى عامل تجاري بل بمعنى أن تصبح طبيعة في الإنسان العامل تعود فائدتها عليه قبل أن تعود على الآخرين وإذا قُدِّر لإنسان أن يكون من خلال خلقه الكريم سبباً في هداية إنسان إلى نور الإيمان فهذا من توفيق اللَّه تبارك وتعالى وحسن عنايته، ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول لأمير المؤمنين عليه السلام: "يا علي لَئِن يهدي اللَّه بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس". وكم من المرات كان هذا السيد المجاهد سبباً في إحداث تحوُّل في حياة الآخرين، لقد حدث مرة أن السيد كان يهم بالدخول إلى باحة منزله في بيروت عندما سمع صراخاً ناجماً عن نزاع حصل بين شخصين كان أحدهما يهمُّ بالهجوم على الآخر وهو يستشيط غضباً منه، تقدم السيد الذي لم يكن أصلاً على معرفة بذلك الشخص، واحتضنه بعطف بالغ ثم أمسك بيده وأصعده معه إلى منزله وهناك تناول معه طعام العشاء وسهر معه بعد العشاء سهرة كانت كافية ليصبح ذلك الشاب من خيار الملتزمين والمؤمنين فيما بعد، يا ترى ما الذي جعل ذلك الشاب الذي كاد الشيطان أن يطيح به في لحظة الغضب ويتخلى عن كل ما كان يفكر به، ويرجع إلى الحياة بمسؤولية، إنه ذلك الخلق الكريم الذي رآه في ملامح ونبرات ذلك السيد الهاشمي فهو للمرة الأولى يرى فيها عالماً يعامله بمثل هذه المعاملة حيث لمس منه المحبة الصادقة بكل معانيها
إن إحدى مميزات الكلام ليكون مؤثراً هو أن يكون نابعاً من القلب ولكي يكون كذلك ينبغي أن يكون صادراً من موقع الرحمة للإنسان المخاطب وهذا ما كان يميز كلام وأفعال سيدنا الشهيد وهي التي انطلق بها السيد نحو قلب ذاك الإنسان، وليست هذه المسألة فريدة في حياة الشهيد فكم من الأشخاص الذين تعاملوا معه كانوا يشعرون بالانجذاب نحو أخلاقه العالية فكانت سبباً في إيمانهم أو في ثباتهم في هذا الطريق، وهنا أستطيع أن أجزم أن كل من يقرأ هذه الكلمات ممن كانت تربطهم علاقة به سوف يستحضر في ذهنه موقفاً أو مواقف عاين من خلالها هذه المسألة وكانت دافعاً له ليكمل الطريق، ولم يكن المرء ليحتاج إلى وقت طويل ليدرك تلك الصفات في هذا الرجل فإنه يدركها حتى ولو كان لقاؤه معه للمرة الأولى فنحن نؤمن بأن الإخلاص يجعل من المرء قريباً محبوباً من اللَّه تعالى وإذا أحب اللَّه عبداً حبَّبه إلى الناس وكان وسيلة لهؤلاء الناس ليشدهم إلى طريق الخير والصلاح.
* ثانياً الثقة بالناس:
وهذه مسألة في غاية الأهمية للعاملين وخصوصاً لمن كان في موقع قيادي متميز فإن فقدان الثقة بالناس من خلال نظرة متشائمة إلى الحاضر تجعل الإنسان يقف عاجزاً عن القيام بأي حركة تغييرية لأن الناس هم الذين سيجري بحقهم ذلك التغيير، قد لا يتحول في المستقبل بعض هؤلاء الناس إلى أدوات تغيير ولكن بالحد الأدنى يمكن أن يتحولوا إلى موالين بأي نحو من الأنحاء وإذا لم يتحولوا إلى موالين فإننا باستطاعتنا أن نضمن عدم عدائية هؤلاء وهذا سر كبير من أسرار استقطاب السيد الشهيد لمختلف الشرائح الاجتماعية، حيث إنه يعتبر أن لكل دوره في حركة المجتمع ولعلنا نجد الكثير من أصحاب الطاقات في وسط الأمّة وفي مختلف لأحوال نجد هؤلاء معطّلين لا لأنهم يرغبون بالقعود وإنما لاعتقادهم بأنهم لا دور لهم بالميدان وإن آراءهم لا تستحق أن يعلنوا عنها، إن الكشف عن مثل هذه الكنوز أمر يستحق الوقوف عنده ملياً وذلك لأن التعامل السلبي مع هذه الحالات لا يهدرها فحسب بل قد يحمل جزءاً من طاقات الأمة يقف ضد مصلحتها في كثير من الحالات، لقد كانت الثقة بمختلف الناس مسلكاً للسيد وليس شعاراً فحسب فهذا جزء من اعتقادها بالمسؤولية تجاه أفراد الأمة وقد تكون الثقة بفلان من الناس في غير محلها ولكن إذا وضعنا يدنا على مصداق خاطئ لهذه الثقة فلا يجوز أن يتحول ذلك إلى مبرر لفقدان الثقة بجميع الأفراد، لقد كان ينطلق من هذه القاعدة وهي أن الأصل في الإنسان هو أن يكون نافعاً في حركة المجتمع، وقد نخطئ في بعض الأفراد بينما الكثيرون ينطلقون من قاعدة أن الأصل في الإنسان أن لا يكون نافعاً إلا ما خرج بالدليل.
وإن من يتمعّن في سيرة الإمام الخميني قدس سره يجد موضوع الثقة بجماهير الأمة تأخذ دوراً كبيراً عند الإمام المقدس بغض النظر عن عوامل الضعف التي يمكن أن تصيب هذه الجماهير في بعض الحالات فإن هؤلاء ومن خلالهم تمكَّن الإمام رضوان اللَّه عليه من تحقيق أحلام الأنبياء والأولياء عليهم السلام في إقامة حكومة اللَّه في الأرض ومن خلالهم حافظت الثورة الإسلامية على وجودها ومن خلالهم وصلت أشعة الثورة الإسلامية المباركة إلى مختلف ديار الإسلام وحيث هناك مستضعفون، هذا ما كان يعتقده السيد عباس الموسوي عن إمام الأمة وكان يمارسه هو فعلاً في حياته عندما كان يعمل، وفي مختلف المراحل، ولسنا في هذا المجال بصدد أن نمدح إنساناً لمسلك معين وإنما نسجل هذه المسألة للتاريخ حتى يستطيع كل إنسان يُعرّج على سيرة هذا المجاهد أو غيره ممن كانت فيه هذه الصفات أن يأخذ هذه الصفة ويضعها في عقله وفي قلبه لأنها وسيلة لها دور فعّال في قيادة الأمة الإسلامية إلى شاطئ الأمان.
* ثالثاً حمل الهم:
لقد كان هذا المجاهد يعيش معاناة الآخرين، أفراداً وفئات وشعوباً وكان حركة دائبة في طريق تخفيف أو إزالة هذه المعاناة، لم يكن الفكر وحده هو الذي امتلكه ليمارس دوره، بل إنه استوعب قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "من بات ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، وانعكس ذلك في حياته العلمية والعملية على حد سواء وكان نقطة انطلاق أساسية في التغيير لأن التغيير إذا لم يكن هماً محمولاً أولاً فإنه سوف لن يحصل على الإطلاق وسوف يقف الفكر عاجزاً عن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام، هذا إذا لم يكن مبرراً للتراجع أيضاً، لقد كان الهم الذي حمله يرافقه إلى حيث ذهب فعائلته تحمل معه هذا الهم، ورفاقه وأخوانه وطلابه كذلك، حتى أنه عندما كان يذهب برفقة الأخوة إلى مكان للترفيه عن النفس فإنه لا ينسى أن يحمل معه مختلف هموم الأمة ليطرحها في
كانت الهموم التي عاشها في قلبه ومشاعره دافعاً له ليتكلم فيها في كل محفل حتى أنه عندما كان يذهب للقاء ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظله ليضع بين يديه إنجازات المجاهدين في لبنان ومشاكلهم كان لا ينسى أن يتحدث معه عن مشاكل المسلمين في مختلف الأصقاع النهاية بين يدي الأخوة لعل الجميع يستطيعون من خلال التداول فيها أن يصلوا إلى نتيجة ولو يسيرة، لقد كان يحتاج هو قبل الآخرين إلى راحة نفسية وبدنية تخفف عنه جزءاً من التعب الذي لحقه من جراء عمله المتواصل، ولكن كان يفكر بأن الترفيه ليس هو خاتمة العمل بل هو مقدمة لعمل آخر وأما الراحة الحقيقية فليست في هذه الدار، وهذا ما يوضح لنا لماذا كانت هناك عاطفة من قبل الآخرين تجاه السيد الشهيد، فإنه يحمل همومهم أكثر مما يحملونها هم في بعض الحالات وهذا ما كنّا نراه في حمله هم المجاهدين وبالمقابل عاطفة المجاهدين تجاه من حمل همهم.
وفي علاقته بالمستضعفين وما كانوا يقابلونه به وفي نظرته وشعوره وإحساسه بمختلف الشعوب الإسلامية في فلسطين وباكستان، وفي كشمير وأفغانستان وغيرها وبالمقابل بما كان يُبادَلُ به من هؤلاء، وكانت هذه الهموم التي عاشها في قلبه وشاعره دافعاً له ليتكلم فيها في كل محفل حتى أنه عندما كان يذهب للقاء ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظله ليضع بين يديه إنجازات المجاهدين في لبنان ومشاكلهم كان لا ينسى أن يتحدث معه عن مشاكل المسلمين في مختلف الأصقاع فكان القائد دام ظله يكبر فيه هذا الاهتمام العالي بأمور المسلمين والمستضعفين، وليست هذه المسألة بحيث يمكن للإنسان أو يعبر عنها وأن يمرّ بها مرور الكرام بل إن حمل الهم فيما نعتقد هو الشيء الذي ينبغي أن يضعه في نفسه كل من أراد أن يَسُوس الآخرين وكل من أراد أن يمارس مسؤولية تجاه الآخرين فإن هؤلاء الذين لا يحملون الهموم يمكن لهم أن يعالجوا المشاكل من خلال عقولهم ومن خلال حسابات عادية تقودهم إلى بعض النتائج، ولكن فرق كبير بين من يفكر في مشاكل الآخرين بعقله وبين من يفكر بهذه المشاكل بعقله وقلبه وجوارحه جميعاً.
* رابعاً الطمأنينة:
إنه لم يكن يخاف على المستقبل، لا على مستقبله الفردي ولا على مستقبل الأمة، وبالرغم مما قدَّمنا سابقاً من عيشه للهم الدائم إلا أن هذا لا يعني بحال أنه كان قريباً من اليأس، إن اليأس لم يستطع أن يخطو إلى قلبه مقدار أنملة واحدة، كان يشعر دائماً أن الأمور بيد اللَّه تبارك وتعالى وأنه إذا قمنا بما ينبغي علينا أن نقوم به فينبغي أن لا نهتم بعد ذلك كيف تجري تلك الأمور، أن الخوف الذي يمكن أن ينتاب العاملين لم يكن يعرف إلى قلبه سبيلاً، ومع أن الواقع المعاش آنذاك لم يكن على ما يرام وينذر بمستقبل أشد منه ولكن النفس المطمئنة الواثقة باللَّه تعالى لا تعرف الهزيمة والانكسار، لقد كان يعتقد بأن الهزيمة إذا حلت بنا فإننا نحن نكون سبباً في ذلك وليس الآخرون هم الذين يهزموننا، ولذلك إذا سرنا من خلال ما يجب وما ينبغي فلا مجال للهزيمة وكما كان يعيش الطمأنينة على مستوى الأمة وهذا ما لمسه الجميع عندما كان يتحدث إليهم عن زوال الاحتلال في بداية عمليات المقاومة وغير ذلك مما كان يتنبأ به وصار فيما بعد حقيقة وواقعاً، كذلك كان يعيش الطمأنينة على المستوى الشخصي فلم يكن بشيء من قدرة العدو يمكن أن تُدخِل الخوف إلى قلبه وهذه المسألة التي نتحدث عنها كانت شيئاً متأصلاً في نفسه المباركة ولا أظن أن هناك إنساناً تعرّف عليه يقول بأنه رآه خائفاً في يوم من الأيام.
من شواهد موضوع الطمأنينة عنده أنه كنَّا برفقته في الطريق من بعلبك إلى بيروت في ليلة من الليالي التي تعرضت فيها المنطقة بشكل عام والضاحية الجنوبية بشكل خاص لقصف عنيف في أواخر الحرب الأهلية اللبنانية، وعندما وصلنا إلى البيت كان القصف يزداد عنفاً، فلم يكن ليتأثر بشيء وكانت الساعة تشير إلى منتصف الليل حيث استسلم للنوم مباشرة مع أن كل الجيران كانوا يعيشون حالة من التوتر والقلق، وكان في المبنى طابق أرضي،إن اليأس لم يستطع أن يخطو إلى قلبه مقدار أنملة واحدة، كان يشعر دائماً أن الأمور بيد اللَّه تبارك وتعالى وأنه إذا قمنا بما ينبغي علينا أن نقوم به فينبغي أن لا نهتم بعد ذلك كيف تجري تلك الأمور أشبه بالملجأ وكان الجيران في المبنى منتشرين على الدرج، كلّ من في الطابق الذي يسكن فيه وقد شعروا بالحياء من النزول إلى الملجأ إذا لم يكن السيد معهم هناك، ذهبنا لنطلب منه النزول إلى الملجأ فإذا هو يغط في نوم عميق فأيقظناه وأخبرناه بالأمر وبضرورة أن ينزل وبعد تردد وافق ولكن من أجل الناس الذين نزلوا بعد ذلك، فكر بهؤلاء ومن ثَمَّ وافق على أن ينزل إلى الملجأ باعتبار أن الناس لم يكونوا يريدون النزول إلا بعد نزوله، وعندما استيقظنا صباحاً باكرً لم نجد السيد هناك في الملجأ، لقد نزل مع الجميع ليلاً إلى الملجأ ولكن عندما نام الجميع تسلل عائداً إلى بيته حيث أكمل الليل هناك، وكم من المرّات عندما كانت القضايا المخيفة تعصف بالآخرين ولكنها بالنسبة إليه لم يكن لها أي أثر على الإطلاق، وفي هذه المسألة يمكن لنا أن نراقب مختلف مراحل حياة السيد الشهيد ولا سيما تلك المرحلة التي كان الطيران الإسرائيلي لا يترك موقعاً ولا مركزاً إلا ويهدده بالقصف، كيف كان السيد الشهيد قدس سره يقف أمام هذه الحالة، لقد كان مطمئناً بأن كل شيء يسير إنما هو بأمر اللَّه تبارك وتعالى.
* خامساً الزهد في الدنيا:
وهي ميزة الأولياء الصالحين والأبرار المتقين وما عند اللَّه خير الأبرار، فليست هذه الدنيا تساوي شيئاً عند هؤلاء، هكذا فهم السيد عباس الحياة الدنيا على طريقة أجداده الطاهرين، فهي مزرعة الآخرة وهي دار الممر، وليس فيها ما يستحق من الإنسان خاطرة من فكر أو لحظة من زمان لأن من أراد الآخرة وسعى لها سعيها فلا بد من نقطة انطلاق، ونقطة الانطلاق في درجات هذه الدنيا الدنية "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين". لم يملك هذا السيد الجليل شيئاً من حطام الدنيا وهو الذي كان قادراً على أن يحصل على الكثير إلا أنه كان يعيش هماً في داخل قلبه هو أن يخرج من الدنيا كما دخل إليها ووصل إلى مبتغاه. لقد حدث أن أحد المؤمنين قدم له سيارة لينتقل فيها إلى أمكنة عمله فلم يقبل، فأراد أن يضعه تحت الأمر الواقع فوضع السيارة في باحة الحوزة قرب مسجد الإمام علي عليه السلام في بعلبك وجعل مفتاحها مع أحد الأشخاص على أمل أن يقبل السيد بها ولكنها بقيت في موضعها لمدة تزيد على الشهر من دون أن يكلف السيد نفسه عناء النظر إلى هذه السيارة رغم معرفته بحسن نية لواهب لها إلا أنه كان يقول: "طالما أن وضعي يسمح لي بالانتقال ماشياً فهذا خيرٌ لي". واضطر صاحبها أخيراً إلى إرجاعها وأما هو فلم يستقل سيارة إلا عندما أصبح الوضع بعد تلك المرحلة يحتم عليه ذلك ولم تكن هذه السيارة التي استقلها فيما بعد ملكاً له على أي حال كما أنه لم يمتلك بيتاً لا في بلدته أو مكان عمل على رغم ما كان يعرض عليه ولم يكن المال الذي يدخل إلى جيبه ملكاً له بل يكون لأول صاحب حاجة يلتقيه.
ومن الواضح لمن يتتبع سيرته أنه لا يجد لشيء سلطاناً على نفسه المقدسة فلا المادة بكل أشكالها تحرك له جفناً ولا كل المقامات المعنوية يمكن أن تأخذ شيئاً من اهتمامه. والدنيا هي هذا أو ذاك أو كلاهما وهي بكل ما فيها لا تعنيه على الإطلاق. كل من دخل إلى بيته سواء عندما كان يسكن في بعلبك أو عندما استقر لفترة قصيرة في بيروت كان يدرك البساطة الشديدة التي يتصف بها هذا البيت فكل ما فيه عدا ما تضمنته المكتبة من كتب ومصنفات. كان من أقل الموجود كلفة وأخفها مؤونة، ورغم أن بعض الإخوة عرضوا عليه مراراً تغيير أثاث البيت ليكون مناسباً أكثر لوضعه إلا أنه كان يرفض باستمرار وكان يعبّر أمامنا بأن هذا الأثاث الموجود فعلاً يشعر معه بالإسراف، لأن بعض الناس، لا قدرة له على تملكه وكان مقتنعاً بهذه المسألة، وكأنه كان مضطراً لاقتناء مثل هذا الأثاث بسبب وضعه الاجتماعي الذي يفرض هذا الأمر، وأما طعامه فلم يكن أفضل حالاً وكان يشعر بالأسى الشديد لذلك، وكان هذا الأمر بالنسبة إليه يعينه على الإخلاص للَّه تعالى وتيسير الحساب بين يديه، قد يمر أحدنا بفترة يزهد فيها بشيء، أو بأشياء ولكن هذا الرجل الإلهي قد زهد بكل شيء وفي كل أحواله وأوقاته. لقد كان الزهد في هذه الدنيا صفة ملازمة له بشكل لا يخفى على أحد من الناس.
* سادساً العبادة:
وعندما تنظر إلى هذه الصفة في هذا العالم الرباني فإننا لا نتجاوزها بسهولة. إن ثمة من يتصور بأن هذا العبد الصالح الذي ترهقه الأسفار والأعمال الجهادية لا طاقه له على العبادة وهو سوف يستسلم للراحة بمجرد الوصول إلى البيت أو المركز أو أنَّ من يقوم بتلك الأعمال الصالحة فقد قام بما عليه وهي خير عبادة. إلا أن من يطلع على أعماله بشيء من التفصيل يشعر أنه أمام إنسان يعيش العبودية للَّه تعالى بما تعنيه في تعاطيه مع الناس والمجتمع من جهة وعندما يخلو بنفسه من جهة أخرى حيث تطيب له المناجاة والأذكار والركوع والسجود للخالق عز وجل. إنه فعلاً أحد رهبان الليل كما عبر أمير المؤمنين عليه السلام. عندما تخاطب سيد شهداء المقاومة الإسلامية فإنك لا تتصور أنه يملك صوتاً جميلاً في الدعاء والمناجاة ولكن إذا قرأ دعاء أو ذكراً أو مناجاة في صلاة فإنه يحملك إلى العالم الأرحب لأن الدعاء كان يصعد بصوت ملائكي عذب إنه صوت القلب الخاشع للَّه تبارك وتعالى. كانت الصلاة في جوف الليل والناس نيام من أحب الأشياء إلى قلبه وأكثرها أُنساً له ولم يكن يعيقه عنها أي شيء، وعندما كان يخاف من عدم إدراكها قبيل الفجر بسبب الإرهاق كان يؤديها قبل نومه. وبسبب مجاورتنا له في مرحلة طويلة في بعلبك وفي المرحلة التي كان يعمل فيها في الجنوب كان يصل إلى بيته حوالي الثانية بعد منتصف الليل وكنا نعلم ذلك من خلال صعوده والمرافقين على درج المبنى وبعد أن يخلد الجميع إلى النوم كان صوته العذب وهو يؤدي صلاة الليل والدعاء يصل إلى الأسماع وإلى القلوب وكأنه يعلمنا أن سر القوة عند ذلك الرباني يكمن في هذه العبادة.
كانت كل الصلوات التي يؤديها على هذه الطريقة تدبر وتفكر وخشوع وتذلل إلى اللَّه تعالى، ولم نره مرة واحدة يؤدي الصلاة بسرعة حتى عندما يكون في غاية الانشغال بسبب ضغط الأعمال الأخرى حتى الجهادية منها إذ إن الصلاة عنده هي الأساس. ويذكر أحد الإخوة أنه كان يحيي ليلة من ليالي شهر رمضان مع السيد الشهيد وكان هذا الأخ مشغولاً بقضاء الصلوات التي فاتته في زمان مضى وعندما قام السيد ليؤدي صلاة الصبح قام هو ليقضي ما عليه من الصلاة فقضى يوماً كاملاً وبالشكل المطلوب الصحيح وكان السيد لا يزال في الركعة الثانية لصلاة الصبح فالتحق به مأموماً في تلك الركعة كانت الصلاة بالنسبة إليه محطة يتزود فيها بما يعنيه على إكمال المسيرة ولذلك نراه يهتم بها. وبتعقيباتها اهتماماً بالغاً وهكذا بالنسبة إلى بقية العبادات الأخرى حيث كان الدعاء ميزة أساسية له ولا تزال وسائل إعلامنا تحتفظ بشيء من ذلك التراث الكبير ولا يزال كل من عايش تلك المرحلة في الثمانينات مع السيد يذكر كيف كان يتم إحياء ليالي القدر المباركة بحضوره المميز حيث صار لهذه الليالي وقع خاص من خلال دعائه وأذكاره وخشوعه وبكائه فيها.
إن الحديث عن هذا الجانب من حياته الشريفة ليس حديثاً عن شيء عابر بل إنه جوهر القضية كما عير أمير المؤمنين عليه السلام عندما استغرب أحدهم صلاة علي عليه السلام في جوف الليل في ليلة الهرير وهي أشد ليالي صفين وقال له: أفي مثل هذه الليلة يا أمير المؤمنين. فأجابه عليه السلام: "ويحك وعلام نقاتل القوم" إنها فعلاً الحالة التي لا يُلَقَّاها إلا ذو حظ عظيم. بسبب مجاورتنا له في مرحلة طويلة في بعلبك وفي المرحلة التي كان يعمل فيها في الجنوب كان يصل إلى بيته حوالي الثانية بعد منتصف الليل وكنا نعلم ذلك من خلال صعوده والمرافقين على درج المبنى وبعد أن يخلد الجميع إلى النوم كان صوته العذب وهو يؤدي صلاة الليل والدعاء يصل إلى الأسماع وإلى القلوب وكأنه يعلمنا أن سر القوة عند ذلك الرباني يكمن في هذه العبادة.