الشيخ محمد توفيق المقداد
في أصل الشريعة الإسلامية هناك حلال وحرام، فالحلال هو ما أجاز الإسلام القيام به لأنه لا يخالف الأهداف الإلهية بل قد يكون محققاً لها في الكثير من الأحيان، والحرام هو ما منع الإسلام عن فعله لأنه يخالف ولا يتوافق مع تلك الأهداف، وهذا التقسيم الثنائي هو مرجع عام لكل الأشياء من دون استثناء.
والحرام في بعض موارده قد يصبح حلالاً، لكن هذه الحلية ليست في الحالات العادية المتعارفة، بل فقط في الحالات الاستثنائية التي لا يكون فيها ارتكاب الحرام حراماً من منظار العقيدة الإسلامية، كما في حالات الضرر أو الخوف على النفس من القتل أو الموت جوعاً وما شابه ذلك من الحالات التي إذا لم يفعل فيها الإنسان ما هو حرام في أصله وقع في بلاء أكبر لا يريد الإسلام للإنسان الوقوع فيه، بل قد يحرم عليه ترك نفسه للوصول إليه في بعض الأحيان، كما لو انقطع الإنسان في منطقة لا طعام فيها ولا ماء ولم يجد أمامه إلا الطعام المحرم، فهنا يجيز الإسلام للمسلم بل يوجب عليه الأكل من ذلك الحرام من أجل البقاء حياً، ويحرِّم عليه عدم الأكل في هذه الحالة لأنه قد يموت فيما لو لم يأكل أو لم يشرب ما هو حرام بالأصل، لأن الحفاظ على الحياة من منظار الإسلام أهم من ترك ما هو حرام أكله أو شربه في حالة استثنائية لا تتكرر كثيراً من أجل الحفاظ على الحياة.
وفي مقابل جواز فعل الحرام في الحالات الاضطرارية نرى أن الإسلام يحرم ما هو حلال على المسلم، ولكن لا على طريقة تجويز الحرام، وإنما من ضمن السياق العام لحياة الإنسان المسلم، لأن الله جعل مصالح ومنافع عديدة في هذا الأمر قد يدركها المسلم وقد لا يدركها أحياناً، إلا أن عليه الالتزام بها في حياته ومسيرته الدنيوية طالما هو حي وقادر على القيام بها. وحتى لا نستطرد كثيراً في هذا المجال نأخذ الصوم كمثال رئيسي في هذا المجال، وميدان الصوم هو "شهر رمضان المبارك" الذي يجب فيه على المسلم الامتناع عن عدة من الأشياء المحللة لفترة النهار من كل يوم على امتداد كامل الشهر المبارك. وهذه الأشياء التي على المسلم الامتناع عنها يدخل أكثرها ضمن الحاجات الأساسية للإنسان كالأكل والشرب والجماع، وكالإرتماس في الماء على المستوى الترفيهي.
وهذا الامتناع الجزئي عن تلك الأشياء يجب على المسلم أن يمارسه من موقع العبادة والتقرب إلى الله عز وجل، وليس لمجرد الإمتناع بدون نية التقرب، وهنا نسأل ما هي الفائدة المرجوة من ذلك وما هو الهدف من الصوم عن تلك الأشياء مع أنها مباحة خارج إطار شهر رمضان المبارك؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول إن الله تعالى قد فرض الصوم على عباده من أجل مصلحتهم ولحبه بهم. ولأنه يريد منهم أن يصبحوا أكثر قرباً منه وعبادة له وخضوعاً وخشوعاً على كل المستويات الإيمانية والعبادية والإجتماعية والسلوكية.
ولهذا عندما نرجع إلى الآيات والروايات نجد في طياتها العديد من المنافع والفوائد للصوم ومن نماذج ذلك بشكل أساس قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فالتقوى إذاً هي الهدف الأساس من الصوم وهي عبارة عن الحالة الإيمانية الراسخة التي تساعد الإنسان على القيام بأعمال العبادة وأفعال الخير، وتمنعه أيضاً عن المخالفة والسير في خط الضلال والانحراف، لأن التقوى يلازمها الخوف من ترك الواجب الذي فرضه الله، وكذلك الخوف من فعل الحرام الذي نهى الله عنه. وهذه التقوى التي جعلها الله هدفاً للصوم ليست مقتصرة على شهر الصوم، بل ينبغي أن تلازم الإنسان المسلم في كل أيام حياته، لكن الصوم هو الخزان والمستودع الإلهي للتقوى الذي يغرف منه المسلم تلك الحالة في شهر رمضان المبارك ليستعيد بها في سائر الأيام الباقية من كل عام.
وقد جعل الله في صيام شهر رمضان الهادف للوصول إلى حالة التقوى زيادة في الأجر والثواب والقرب منه لكل الأعمال الواقعة فيه، مع أن أجرها خارج ذلك الشهر أقل من ذلك، إلا أن الله عز وجل المحب لعباده والرحيم بهم يعطيهم من المحفزات والمرغبات ما يجعلهم يُقْبلون على الصوم بكل قواهم الإيمانية والروحية للحصول على تلك الجوائز الإلهية العظيمة التي خصّ الله بها هذا الشهر المبارك، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "كل عمل ابن ادم له غير الصيام، هو لي وأنا أجزي عليه" ويكفي هذا الحديث دلالة على أهمية الصوم عندما ينسبه الله إليه دون غيره من الأعمال وهو الذي يثيب الإنسان عليه. وفي حديث آخر لافت للنظر يبين فيه الإمام الرضا عليه السلام العديد من الحالات التي يمكن اعتبارها من مفردات التقوى وهي من فوائد الصوم "... فإن قال: فَلِمَ أُمِرُوا بالصوم؟ لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً لما أصابه من الجوع والعطش فيستوجب الثواب، مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات، وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل ورائضاً لهم على أداء ما كلفهم ودليلاً في الأجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا، فيؤدوا إليهم ما افترض الله تعالى لهم في أموالهم...".
ولا شك أن الوصول إلى حالة التقوى المتوخاة من الصوم يحتاج إلى الإرادة القوية والعزيمة الصلبة التي لا تلين ولا تسقط أمام الحلال الذي حرمه الله في أيام الصوم، ولذا ورد في الحديث أن الصائم عليه أن لا يكتفي بصيامه بأن يكف عن الأكل والشرب، وكأنه هذا هو الصوم، لأن هذا وحده فقط لا يحقق الغاية ولا يوصل إلى الهدف، وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ذلك كما عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش...." أو كما عن أمير المؤمنين عليه السلام: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ..." فمثل هذا الصوم لا قيمة له عند الله، بل إن مردوده سلبي على من يصوم مثل هذا الصوم لأنه حجة عليه يوم القيامة لأنه كان ضعيف الإرادة والعزم ولم يستطع أن يمنع نفسه عن المحرمات الأخرى التي تعطي للصوم قيمته الحقيقية، ولذا ورد ان الصائم عليه أن يكون كما ورد في الحديث "إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك عن الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك عن القبيح،... وليكن عليك وقار الصوم، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله، ولا تجعل صومك كيوم فطرك، وإياك والمباشرة، والقبل، والقهقهة بالضحك فإن الله مقت ذلك" وهذا عن الإمام الصادق عليه السلام، وكذلك ما ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام وأعنَّا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور.
هذا الكم الهائل من الأحاديث يشير كله إلى مفردات متعددة من جميع النواحي الإيمانية والروحية والسلوكية والأخلاقية ينبغي على الصائم أن يلتزم بها إن أراد الوصول إلى حالة التقوى التي تجعل الإنسان يعيش مع الله ويعيش الله معه في كل حالاته، من الفعل والقول والحركة والسكون، وفي مجمل علاقاته مع ربه ومع الناس من حوله، وأن يكون الصائم المثال والنموذج للإنسان العابد الزاهد المبتعد عن الدنيا وزينتها وزخرفها، وبهذا يمكن أن يصل الصائم من خلال التزامه بكل ذلك إلى نوع من حالات التقوى التي لها درجات ومراتب تختلف من شخص إلى آخر وفق إمكاناته واستعداداته الروحية ومدى تفعيلها وإعمالها للوصول إلى أعلى درجة ممكنة من التقوى التي تنعكس عملياً وتظهر في حياة الإنسان، لأن الواقع الذي يعيش فيه الإنسان هو محل الإختبار والامتحان لحقيقة الصوم الذي كان يمارسه المسلم خلال شهر رمضان المبارك. ولأن غاية الصوم هي التقوى، نجد أن الله شجَّع المسلم على أداء هذه الفريضة حتى خارج إطار شهر رمضان، ليبقى المسلم على تواصل دائم مع هذه العبادة، طوال العام كما ورد في الحديث الشريف "من صام ثلاثة أيام من كل شهر، كان كمن صام الدهر" لأن الله عز وجل يقول ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ وكذلك الحديث التالي "صوم ثلاثة أيام من كل شهر، أربعاء بين خميسين، وصوم شعبان يذهب بوسواس الصدر، وبلابل القلب".
*****
في نهاية هذه المقالة نذكر بعض الاستفتاءات المهمة للقائد المرجع الإمام الخامنئي "دام ظله العالي".
س - 760 -: إنني من المدمنين على التدخين، وفي شهر رمضان المبارك كلما أحاول أن لا أكون حاد المزاج، فإنني لا أستطيع مما يؤدي إلى عدم ارتياح عائلتي كثيراً، وأنا متألم أيضاً بسبب حالتي العصبية هذه، فما هو تكليفي؟
ج: يجب عليك صيام شهر رمضان، ولا يجوز لك التدخين في حال الصوم، ولا تجوز حِدَّة التعامل مع الآخرين بلا مبرر، وترك التدخين لا علاقة له بالغضب.
س - 787 -: في شهر رمضان أكرهتني زوجتي على الجماع، فما هو حكمنا؟
ج: ينطبق على كل منكما حكم الإفطار العمدي، فيجب عليكما مضافاً إلى القضاء الكفارة أيضاً.
س - 805 -: ابتلى شخص ولسنوات عديدة بممارسة العادة السرية في شهر رمضان وغيره، فما هو حكم صلاته وصيامه؟
ج: يحرم الاستمناء مطلقاً، وإذا أدى إلى خروج المني فهو موجب للجنابة، ولو كان ذلك في حال الصوم كان بحكم الإفطار على محرم، ولو صلى أو صام وهو مجنب بدون غسل ولا تيمم فصلاته وصومه باطلان ويجب عليه قضاؤهما.