عبد الحليم حمود
الخط العربي ليس في أحسن حالاته، وللأسف لا يسعى أحد لتحسين هذا الوضع إذا استثنينا بعض المحاولات الجادَّة في إيران، حيث توجد جمعية للخطَّاطين تدرّس الخط، وهي شبيهة بنظام كليَّات الأربع سنوات، التي تمنح البكالوريوس، والدولة توفر للخريج فرصة عمل، ويتميز الخطاطون الإيرانيون بأسلوب خاص في خط التعليق. أما تركيا فتسعى للوصول للمكانة التي تحتلها إيران، أما مصر فقد عادت إلى تدريس مادة الخط بالمدارس، كما كان في السابق كما تعتبر سوريا والعراق من المراكز الهامة للخط بينما يقوم مجلس التعاون الخليجي بتنظيم معرض كل سنتين لخطاطي دول المجلس.
وإذا أردنا تعداد المشاكل التي تعترض الخط والخطاطين فلن نحتار أبداً لأن المشكلة تنحصر تقريباً بعنوان واحد وهو: "الكمبيوتر". فمنذ دخول هذا الجهاز إلى المؤسسات والصحف ودور النشر ودنيا الإعلام والإعلان، منذ دخوله هذه الميادين بدأت تشوهات تدخل إلى قواعد الخط التي يقدمها هذا الجهاز، كما بدأ دور الخطاط بالانحسار إلى أقصى وأقسى الدرجات حتى أنه غاب كلياً عن عالم الإعلام والكتَّاب، وأكثرهم تحول إلى مهن أخرى أو لكتابة بعض اللَّوحات الخطية التي قد تُعرض في صالة أو متحف. الكمبيوتر لا يمكن أن يضيف حتى الآن جماليات جديدة. لأنه لا يستطيع التمييز بين كتابة حرف الجيم التي يعقبها "ألف" ولها شكل مميز، والجيم التي بعدها "راء" ولها شكل آخر، أو اتصال الباء بالميم في خط الثلث والتي وصلت إلى ستة عشر نوعاً... وهل الكمبيوتر يستطيع عمل لوحة فنية للخط؟
لذلك، اقتصر دور الكمبيوتر على أنه استعيض به عن الحِرَفيين في الصحف وباقي المجالات، ومع ذلك فإن الخطاطين الأذكياء استطاعوا أن يدخلوا تقنية الكمبيوتر إلى ورشهم ومحلاتهم للاستعانة بهذه التقنية الحديثة، باعتبارها نعمة في سرعة الإنجاز ودقته. على مرِّ عدة قرون كان الخط العربي رسولاً للفكر الإسلامي وتحديداً للقرآن الكريم، ومن الناحية البصرية كان شكلاً مبهراً أدهش الكثير من الغربيين القدماء والحديثين الذين لم يفهموا معانيه لكنهم سُحروا بإنسيابيته وحميميته بعكس التسننات الحادة التي حملها الحرف اللاتيني.
* تغلغل السياسة في الفن
إن الرسم كباقي أشكال الابداع يتأثر بالمناخ السياسي والاقتصادي لكل بلد، وغالباً ما تتطور المدارس التشكيلية وتتنوع حسب هذه المناخات، فالثورة الفرنسية مثلاً سعت إلى أن يكون الفن دعامة أساسية لقيادة الدولة الصالحة، ومع أنها حررت الفن من سلطة البلاط والكنيسة إلا أنها كبلته بمجموعة من القوانين النظرية، الجمالية والأخلاقية في قالب يحوّل الفن إلى "موظف" في خدمة شعارات الثورة وهذا ما أخّر ظهور الرومانسية في فرنسا عن انكلترا وألمانيا حوالي العقدين من الزمن بسبب سيادة المذهب الكلاسيكي الجديد، مذهب الدولة الرسمي. أما في روسيا وبعد الثورة البولشفية سنة 1917 وسيادة الفكر الاشتراكي فقد انهمكت السلطة الجديدة في إيجاد الطرق لفرض إيديولوجية الطبقة التي تمثلها، وخلق ثقافة البروليتاريا. وقد أدى هذا إلى تشكيل طبقة من الفنانين المتيَّمين برسم القبضات والسلاسل المقطعة والسنابل الباسقة والمناجل في أيدي الفلاحين بالإضافة إلى تكريس صورة القائد وتأليهه، وفي المقابل ذهب ضحية هذا التوجه أسماء كبيرة من الفنانين الذين أبوا الانصياع مثل كاندينسكي وشاغال وفيلونوف. وفي مناخ الحرب العالمية الأولى خرجت فئة من الفنانين الساخطين على القتل والدمار في العالم الذي تخلفه الحروب، فكانت "المدرسة الدادائية" التي ولدت في فرنسا وهي قمة في العبث والتغيير والرفض واللاإيديولوجيا، ثم ولدت "السوريالية" من رحمها إنما ضمن بعض "القواعد" و"الأصول" وقد كان لها عدة منظرين على رأسهم اندريه بروتون.
في العام 1945 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية خرجت أوروبا من الحرب ممزقة منهكة وتحديداً باريس التي غاردتها أسراب الفنانين إلى دول عدة وتحديداً إلى أميركا التي خرجت من الحرب دون خسائر تذكر، فازدهر الفن في نيويورك وتطورت متاحفها. لا شك أن فناً جديداً قد ولد بعد الحرب لكنه لم يكن منقطعاً عمَّا سبقه، فجذوره كانت ممتدة في تربة الحداثة الخصبة علماً أن هذه المدارس سميت "ما بعد الحداثة" ومن أبرز هذه المدارس نذكر "البوب" أي الشعبي وهو فن يعتمد على تكبير مشاهد ورسوم عادية لصور النجوم ورسوم سوبرمان أو حتى غلاف علبة شراب البندورة! من الآن فصاعداً ننصح بالتفتيش عن السياسة في كل شيء فهي على الأكيد حاضرة ولو كثرت أقنعتها.