دروس من نهج البلاغة
إن قضية حفظ الجهاد تعتبر اليوم من أهم القضايا وأكثرها حساسية، وهي ترتبط بمصير الأمة والإسلام.
وعلى أساس هذين الأصلين الكونيين والقرآنيين:
- ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.
- ﴿ولن تجد لسنة الله تبديلاً﴾.
فإن الإنسان هو الذي يلعب دوراً أساسياً في عملية التغيير، والقوانين الحاكمة على المجتمع والتاريخ هي قوانين إلهية تقوم على أساس الحكمة واللطف والرحمة اللامتناهية.
والثورة الإسلامية والخط الجهادي في سبيل الله لا يخرجان عن القوانين الإلهية، ولهذا ينبغي أن نراعي هذه القوانين بدقة. وذلك من خلال الاطلاع عليها أولاً، والتطبيق العملي وتحمل المسؤولية ثانياً.
إن معرفة العوائق والمخاطر والمشكلات الإنسانية هي الكفيلة بالإرشاد الصحيح، وليس مجرد إطلاق الشعارات.
ولأجل التعرف على مثل هذه الأمور يعتبر التاريخ مصدراً أساسياً في المدرسة. وتلك الحوادث الكثيرة التي جرت على الأمم الماضية وذكرها القرآن الكريم لم تكن إلا لمثل هذه القاعدة. ويعرف التاريخ تحت عنوان مصدر المعرفة التجريبية والمصيرية: "واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم.. فإذا تفكرتم في تفاوت حالهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء عنهم ومدت العافية فيه عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم".
ومن هذا الحديث العظيم، نستفيد المطالب التالية:
أ- التاريخ مصدر دقيق للمعرفة التجريبية.
ب- القوانين الحاكمة على التاريخ ثابتة.
ج- للتاريخ قوانين وضوابط.
د- العامل المحرك في التاريخ هو الإنسان لا غير.
هـ- إن استمرار المجتمع الصالح مرهون برعاية القوانين التاريخية.
ومن هنا وجب علينا أن نطالع التاريخ بدقة ونرجع إلى أحوال الماضين من الأمم وما جرى عليهم لنأخذ بتلك العبر والدروس. ولكن، نظراً إلى أن مطالعة التاريخ ليست متيسرة للجميع، فإننا نرجع إلى خبير عظيم في التاريخ والسنن الكونية ليرشدنا إلى القوانين الإلهية ويعرفنا على مسؤولياتنا الصحيحة تجاه الثورة والخط الجهادي.
وهذا الخبير العظيم هو أمير المؤمنين علي عليه السلام.
يقول عليه السلام: "يا بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم وآخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيلة وتوخيت لك جميلة...".
وعلى هذا الأساس فنحن نقف على نظرية متكاملة في علم الاجتماع يقدمها لنا أمير المؤمنين عليه السلام فيما يتعلق بحفظ الثورة وصونها من عوامل السقوط.
* المسؤوليات المتقابلة
يتحمل المسؤولين والقادة مسؤولية تجاه الأمة والعاملين، وتتحمل الأمة مسؤولية متقابلة تجاه القيادة. فإذا روعيت هذه المسؤوليات المتقابلة، فإن استمرار الثورة وحفظها سيكونان قطعيين. وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا الأمر تحت عنوان حق الوالي وحق الرعية:
"ثم جعل- سبحانه- من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض. وأعظم ما افترض- سبحانه- من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله- سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاماً لإلفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطُمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام وكثرت علل النفوس، فلا يُسْتَوْحشن لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطلٍ فُعل فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه...".
فمسؤولية الناس تقوم على أساس:
1- حفظ الوحدة والانسجام.
2- الجهاد الأكبر.
3- عدم الانحراف عن الإسلام المحمدي الأصيل.
4- استمرارية القيادة الدينية.
5- عدم التملق للأشخاص.
6- الثورة الثقافية.
7- محاربة الفساد.
8- حب الشهادة والتضحية.
9- تشخيص المنافقين.
أما مسؤولية القادة فتقوم على الأسس التالية:
1- القيادة الشعبية.
2- إزالة الاستضعاف.
3- تجنب إراقة الدماء البريئة.
4- عدم إعطاء الفرصة للعدو.
5- اتباع الحق حتى ولو على حساب المصلحة الذاتية.
* حفظ الوحدة والانسجام
من أطول الخطب المروية عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة الخطبة القاصعة التي تحدث فيها عن عوامل استمرارية الثورة والجهاد وأسباب سقوطها وزوالها.
ويمكن تقسيم هذه الأفكار إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: في بيان أن التاريخ والحوادث الماضية تشكل مصدراً عظيماً للمعارف الاجتماعية والسياسية والقوانين والسنن الإلهية.
القسم الثاني: في بيان أصل عام حول استمرارية الثورات.
القسم الثالث: في بيان أصل عام حول أسباب سقوط الثورات.
القسم الرابع: تحليل عيّنة تاريخية من عصر حكومات القياصرة والأكاسرة حتى ظهور الإسلام وانتصار الثورة الإسلامية بقيادة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
القسم الخامس: توقع سقوط وانحطاط الثورة ما بعد العصر الأول على أساس القوانين التاريخية.
وقد تحدثنا في بداية البحث عن القسم الأول، وأما القسم الثاني: فإن الإمام عليه السلام يتعرض له قائلاً:
"فالزموا كل أمر لزمت به العزة شانهم.. من الاجتناب للفرصة، واللزوم للالفة، والتحاض عليها والتواصي بها".
فحفظ الوحدة والانسجام ومجانبة الاختلاف والفرق، كل هذا إحدى أهم عوامل استمرارية الثورة.
وفي مكان آخر يقول عليه السلام: "إنه لم يجتمع قوم قط على أمر إلا اشتد أمرهم واستحكمت عقدتهم.. ولم يتمنّع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة وكفاهم حوائج الذلة، وهداهم إلى معالم الملة".
أما بالنسبة للقسم الثالث الذي يتحدث فيها أمير المؤمنين عليه السلام عن أسباب السقوط والانحطاط، فيقول عليه السلام: "اجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم من تضاغن القلوب وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي".
فالأحقاد والضغائن والخلافات الشخصية وعدم الانصهار تحت بوتقة الإسلام وأحكامه، كل هذه تؤدي إلى انكسار الثوار وسقوطهم.
وفي موضع آخر يقول عليه السلام: "ايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، إلا ما شاء الله".
وبالتالي فإن كل فرقة أو شقاق ستكون عاملاً مؤثراً في السقوط والهزيمة، ومنها سوف ينفذ الأعداء ليدمروا الإسلام وأحكامه.
"إياكم والتلون في دين الله، فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة تحبون من الباطل، وإن الله سبحانه لم يعط أحداً بفرقة خيراً ممن مضى، ولا ممن بقي" (شرح ابن أبي الحديد/ج10/ص33).
وأيضاً عنه عليه السلام: "والله لا ظن أن هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم".
فالأمة إذا وصلت إلى شاطئ النصر، واتبعت الإسلام، واجتمعت تحت راية القائد العادل هي أمة منتصرة دائماً. أما إذا حصلت الفرقة وتحت حجج مختلفة، فإن الخير سوف ينتزع منها: "الزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب".
ومن البديهي أن الإمام لا يريد هنا أن ينفي أهمية القوة العسكرية والاقتصادية، ولكنه يلفت الأنظار إلى العامل الأهم والأخطر الذي يقع على رأس تلك الأمور، وهو وحدة الكلمة.