إن التتبع الدقيق يدلنا على أن الخطاب والانجاز الثقافي لا يقل جذرية وإبداعاً عن الجوانب الأخرى. ففي نصوص كاشفة يواجهنا الإمام بخطابات ونصوص تؤصل للرؤية وتؤسس لها، فسماحته يقول: "الثقافة على رأس الأمور كلها"، وفي موقعية الثقافة في حركة تجاذب التيارات المتنافسة نقرأ للإمام الخميني: "إن ثقافتنا ومدارسنا كانت من أول يوم مورد اهتمام المخالفين والمعارضين، لأنهم يعلمون أن كل ما يحدث هو بسبب الثقافة"، وحين يريد الإمام أن يحدد للثقافة دورها في الحركة التغييرية، نراه يمنحها موقعاً بنيوياً فيقول: "إن طريق إصلاح بلد ما يمر من إصلاح ثقافته، ولا بد أن يبدأ الإصلاح من الثقافة".
إن هذه النصوص، تغرينا بمقاربة الثقافة في خطاب الإمام وإنجازه، والنظر إليها كأصل، ولكن بأي معنى؟
لا نعني بالأصل معناه المستخدم في الثقافة الحديثة، التي تموضع الأصل وتمنحه قوة السلطة، كما هو الحال في التيار الذي ينادي بالعلم والعقل كأصول وسلطات مطلقة، لأن الثقافة تقوم في نهاية المطاف بوظيفة إجرائية، ولكن أيضاً لا بالمعنى الفني لكلمة إجرائي ووظيفي، فالثقافة إذاً، أقل من الأصل القائم بذاته المنفصل عن غيره، وأكبر من الحالة المهيمن عليها والموجهة سلطوياً. أي ليست الثقافة سلطة ومرجعاً، ولا يمكن أن تختزل كذلك في كونها مجرد أداة إجرائية لا تعي لنفسها وظيفة إلا في سياق السلطة التي تحركها.
في ضوء هذه التحديات نحاول أن نقدم بعض الرؤى الكاشفة للخطاب الثقافي الخميني، وخصوصاً أن الإمام أسس لأصول مهمة وفاعلة في المسألة الثقافية، وبالذات ما يرتبط بتأصيل الثقافة الإسلامية في مقابل ثقافة التغريب، بيد أنه ينبغي أن ننتبه إلى أن الاهتمام الثقافي، بل ومجمل الفكر الثقافي للإمام الخميني لا يرتبط بهموم أكاديمية أو رغبات في التنظير، وإنما ينصب على الواقع ويتصل به. بمعنى أن الثقافة خطاب وإنجاز، والهم الثقافي جزء من الهم النهضوي نفسه.
وفيما يتعلق بمهمة التأصيل الثقافي داخل المجتمعات الإسلامية، ومواجهة التغريب في هذه المجتمعات يمكن رؤية أولية تقوم على أساس الإشارة إلى النقاط الثلاث التالية:
أولاً: يعطي الإمام لقضية الاستعمار في العالم الإسلامي.. بعدها الثقافي، ليجد أن أرضية العبور الغربي إلى الجسم الإسلامي تمثلت في التسلط الثقافي، حيث يقول سماحته: "إن السبب الأساس في تسلط الغرب أو الشرق على جميع الأقطار الإسلامية هو التسلط الثقافي.." ثم يضيف موضحاً: "إن المصيبة العظمى للمسلمين هي هذه الثقافة الرائجة بينهم".
ثانياً: إذا كانت المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية قد شهدت تصعيداً في المطالبة بالاستقلال وطرد القوى الاستعمارية في أشكال وجودها المباشر، فإن هذه القوى جددت حضورها، وأعادت إنتاج نفسها في بلادنا من خلال مجموعة من أشكال التبعيات الثقافية ـ الفكرية. وإذا كانت الجهود قد تركزت في تيارات الثورة والتغيير المختلفة، على المسألتين الاقتصادية والاجتماعية بعد انجاز التغيير السياسي، فإن الإمام الخميني يعطي مسألة التحرر من التبعية الفكرية موقع المهمة الصعبة التي تواجه التيار الإسلامي ونهضته، وهذا التشخيص الذي يرسمه لوظيفة التحرر من التبعية الفكرية ينبع من تحليل لدى سماحته يلخصه قوله رحمه الله: "إن أكبر التبعيات هي تبعية الشعوب المستضعفة الفكرية للقوى الكبرى وللمستكبرين، وإن جميع التبعيات تنبثق من هذه التبعية الفكرية". ثم ينعطف سماحته للقول في تقرير حاسم: "وما دام الشعب لم يحصل على الاستقلال الفكري، فلا يمكنه أن يستقل في الأبعاد الأخرى". وحين يريد الإمام أن يوضح أبعاد التبعية الفكرية التي تضرب بساحتنا، يقول: "إن أعظم فاجعة لشعبنا هي هذه التبعية الفكرية، حيث نتصور أن كل شيء لا بد من استيراده من الغرب، فيما نحن فقراء "محتاجون" في جميع الأبعاد الأخرى"!
ثالثاً: إذا استطاعت النقطتان الآنفتان تحقيق تصور كاف لما يوليه الإمام من أهمية قصوى لمواجهة ثقافة التغريب، فإن سماحته لا يفعل ذلك إلا بهدف تأصيل ثقافة الفكر الإسلامي التي وهبها سني عمره في أشواط النهضة والجهاد، وكنصّ دالٍ على التأصيل الإسلامي للثقافة في مواجهة التغريب، نقرأ لسماحته: "اعتمدوا على الفكر، الإسلامي، وحاربوا الغرب والتغرب، وقفوا على أقدامكم واحملوا على المثقفين الموالين للغرب والشرق". إن هذا النص ونصوصاً ثقافية أخرى أطلقها الإمام في مواجهة التغريب، تربط بشكل محكم بين الظاهرة وأصلها، وتطالب بمواجهة الاثنين. ففي الوقت الذي يحمل الإمام على التغريب، يؤكد دوماً أن أصل المواجهة ومحورها الأساسي، هو الغرب نفسه، وبذلك تكون نهضة الإمام في مواجهة شاملة للغرب ثقافة وسياسة.
وهذا الموقع المتقدم ينأى بنهضة الإمام أن تكون ضحية فصام الوعي الذي يسود كل التيارات النهضوية غير الإسلامية، فهي ترفض هيمنة الغرب السياسية، لتجد ـ وفي الوقت نفسه ـ في ثقافته وفكره ونظامه الإدراكي والمعرفي، وأسلوبه المعيشي "السلوكي" القدوة والنموذج. وهكذا سقط مفكرو النخبة في عالمنا العربي في المأزق، فهم في الوقت الذي يعارضون هيمنة الغرب السياسية، نجدهم يفكرون من خلال ثقافته ثقافته وفكره ومناهجه. إنهم يعيشون وعيهم من خلال الوعي الغربي ذاته، ولذلك لا تجد أطروحاتهم صدى واسعاً بين التيار الجماهيري، حيث لا تملك أفكارهم فاعلية تغييرية حقيقية، ذلك أنهم يحاولون تغيير واقع الهيمنة الغربية بأدواتها وأفكارها ومفاهيمها، وعبر نظامها الإدراكي نفسه، وإنهم يرضون بهيمنة الغرب الثقافية بديلاً عن الهيمنة السياسية!