قال أمير المؤمنين عليه السلام:
"ما أحقّ الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل، يحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها".
في الأعداد السابقة قدمنا نموذجاً عملياً لمحاسبة النفس يبنى على أساس تقسيم البرنامج إلى جوانب أربعة: الفكري، الروحي، الاجتماعي والعملي. يأخذ السالك في كلّ جانب مجموعة من الاهتمامات الضرورية يستطيع من خلال الأسئلة المطروحة بشأنها أن يعرف ما ينبغي أن يقوم به، وبالتالي يكتب هذه الواجبات أو تلك الموبقات التي يجب عليه الابتعاد عنها.
وقد خصّصنا الصفحة الأخيرة لكتابة هذه الأمور على أن يحتفظ بها في جيبه لينظر فيها كلّ يوم ولو مرة واحدة فيعرف ما يجب أن يقوم به.
وإذا لاحظ القرّاء الأعزاء مسألة التراتبية والتدرج في البرامج فإنّهم يدركون أنّ المرء ينبغي أن يبدأ أولاً بسلسلة من التكاليف الابتدائية السهلة ويتدرج في الأعمال والعبادات صعوداً حتّى يصل إلى مقام العمل الحقيقي ويصبح مصداقاً للحديث الشريف: "أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا. على عسر أم على يسر".
فاعلم أيّه الأخ الإيماني أنّه لا يمكن طي المدارج المعنوية ومراتب الإنسانية والكمال بدون التقدم بسير المراقبة والمحاسبة،ونظراً لسؤال بعض الأخوة الذين أرسلوا يستفسرون حول طريقة عمل البرنامج وجدنا أنّه من المناسب أن نبين بعض الأمور العامّة والمهمّة في هذا المجال.
* المراقبة، المحاسبة، المؤاخذة
ثلاث كلمات كلّ واحدة تعبر عن مرحلة ينبغي أن يقوم بها السالك حتّى يقطف الثمرة المطلوبة من المحاسبة، فإذا اقتصر على واحدة لم يحصّل شيء لأن كل واحدة تكمل الأخرى.
أمّا المراقبة فهي أن يجعل المرء على نفسه رقيباً يلاحقها في كلّ لحظة ويتابعها في كلّ حركة ويقف معها في كلّ فكرة. وهذا الأمر يكون في البداية صعباً جداً وشاقاً ولكن على أثر المجاهدة والمواظبة على أمر الرياضة يعبر السالك مراحل المراقبة ليصل إلى ما ذكرناه وأقوى من ذلك.
والمحاسبة هي الوقوف على الأعمال وتصنيفها فإن عمل خيراً شكر الله على ما هداه وإن عمل سوءً تاب واستغفر الله. والمحاسبة بتعبير أدق تحصل عندما يقوم السالك بالنظر إلى أعماله نظرة شرعية وفق الموازين الإلهية ليعرف مدى ما ارتكبه وما يجب أن يفعله أو يتركه.
والمؤاخذة هي العقاب الذي يطبقه السالك على نفسه التي تمردت وعصت وهي الفائدة العملية من وراء المراقبة والمحاسبة. وينبغي أن يكون هذا العقاب شرعياً والأصحّ أن يقال تأديب. كما يفعل المربي الشغوف عندما يريد أن يؤدّب طفلاً.
* أهمية المراقبة
في هذا السفر البعيد يدرك السالك أنّ زاده الأول هو التقوى وأنّ طريقه الذي يسير عليه هو الشريعة الغرّاء ويعلم أنّ النفس الإنسانية هي المسافر.
فبدون تهذيبها بالرياضات الشرعية والأحكام الإلهية لن يتمكن من سلوك الطريق للوصول إلى التقوى بمراتبها فهذه النفس قد استأنست بعالم الطبيعة وصارت متعلقة بآثاره الدنيئة ونتيجة هذه العلائق اتصفت بصفات رذيلة صارت بدورها حجباً غليظة بينه وبين مشاهدة الحقيقة والسلوك المعنوي.
كيف يمكن الوقوف على حالات النفس وكيف يمكن تقديم العلاج النافع لها وكيف يمكن التعرف على مراحلها وعوالمها.
هذا ما تقدمه المراقبة للسالك بشرط أن يراعي فيها جملة من المهمات والشرائط.
* ما هي هذه المهمات؟
عندما يعزم السالك على البدء بأمر المراقبة قد تصيبه الحيرة في البدء والشروع ولا يعرف كيف يطبق عملية المراقبة.
ولكن بأقل تأمل نفهم أن ما نريد أن نتعرف عليه هو الأعمال التي نقوم بها ونمارسها في حياتنا اليومية.هذه الأعمال إمّا أن تتخذ صفة الواجب أو الحرام أو المكروه أو المستحب أو المباح. ويمكن أن نتعرف على هذه الأمور من خلال دراسة الأحكام الشرعية إضافة إلى المسائل الأخلاقية والسلوكية وعندها سوف ندرك مباشرة الصفة التي تتصف بها أعمالنا.
الأمر الثاني أن نراعي في عملية المراقبة مسألة الرفق والمداراة، فلا نطلب من النفس في بداية الأمر أن تقوم بأعمال كثيرة وعبادات عظيمة بل نتدرج في هذا المطلب، لأنّ من دأب هذه النفس أنّها إذا حمّلت فوق طاقتها ألقت بعنان السفر أرضاً وتركت السفر والمجاهدة دفعة واحدة.
وقد أعددنا لك أخي السالك تلك البرامج السابقة لتساعدك أولاً على اكتشاف ما ينبغي أن تقوم به، فإذا اتبعت التعليمات الواردة في هذا العدد الرابع مثلاً أمكنك أن تصل بسهولة إلى تأليف برامج مشابهة. وقد راعينا إضافة إلى ذلك مسألة التدرج والارتقاء مرتبة ولذلك فقد جاء برنامج شهر رمضان أصعب من غيره.
وبعد، إنّنا ندعو أخوتنا الإيمانيين إلى هذه المأدبة المعنوية العظيمة التي أعدت للسفر في عالم النفس ومنه إلى الرب المتعال "من عرف نفسه عرف ربه".
والحمد لله