آية الله الشهيد مرتضى مطهري
المسألة الأخرى (بعد الحديث عن عامل المحبة في العدد السابق) في موضوع التربية ترتبط بالدوافع الإنسانية للبحث عن الحقيقة ويقال أن كل الإنسان يمتلك هذه الغريزة التي تدفعه لاكتشاف المجهول والبحث عن الحقيقة، ولهذا يسعى الإنسان نحو العلم، فهذه من جملة الأحاسيس والدوافع التي ينبغي تقويتها في الإنسان.
وفي هذا المورد لا يتسع المجال لبحث مفصل، لأن كل واحد يعلم أن الإسلام قد حث كثيراً على طلب العلم، وتاريخ الإسلام نفسه يحكي وغير المغرضين يوافقون - عن أن ظهور المدنية العظيمة للإسلام التي أسست أعمدتها منذ القرن الأول - بل منذ عصر النبي الأكرم بدأت القراءة والكتابة والتعليم والتعرف على اللغات المختلفة، بدءاً من العلوم الدينية وصولاً إلى العلوم الطبيعية والفلسفية والطب وغيرها - فإن جذور السعي والرغبة تعود إلى الإسلام الذي أمر المسلمين بهذا العمل المقدس.
* التعصب سدٌ أمام العلم
ما يحول دون هذا الأمر عادة هو التعصب وأنواعه، ونحن نعلم أن الإسلام قد حارب التعصب والعصبية. ويوجد في نهج البلاغة خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام تسمى بالخطبة القاصعة وهي من أكبر خطبه، تدور في معظمها حول محور التعصب والتكبر، لأن العرب كانوا متعصبين كثيراً، وكان أمير المؤمنين يحارب هذه الصفة بشكل كبير، ويبين مخاطرها ومساوئها، ثم يقول في نهاية الأمر: "إذا كان تعصبكم لشيء فليكن تعصبكم لمكارم الأخلاق". ولا يكون الأمر: لماذا أدرس عند فلان الذي هو ابن فلان، وأنا ابن فلان الذي كان يستخدم أباه. إن مثل هذا التعصب الأحمق كان رائجاً كثيراً عند العرب.
* عوامل التربية
الآن، بعد أن عرفنا كيف يينبغي أن يكون الإنسان بنظر الإسلام من ناحية العقل والإرادة والعبادة والرتبية وصحة الجسم والمحبة، نبدأ بالحديث عن العوامل. فما هي العوامل التي تؤمن هذه الكيفيات بالشكل المطلوب، وما هي العوامل التي تحول دون تحققها؟ ونحن سوف نهتم أكثر بالعوامل الخاصة التي اعتمد عليها الإسلام وأكد. وقد ذكرنا سابقاً أن العبادة في أصل هي عامل تربوي في الإسلام.
* المراقبة والمحاسبة
المسألة الأخرى التي ينبغي ذكرها وهي لا توجد إلا في التعاليم الدينية، ولا يمكن أن توجد في غيرها، ما يؤكد عليه علماء الأخلاق كثيراً، وفي المتون والنصوص الإسلامية ذكرت كثيراً، وهي ما يسمى "بالمراقبة والمحاسبة". ففي التعاليم اللادينية لا يوجد مثل هذا الأمر، ولا معنى له فيها. ولكن بما أن التربية الدينية تدور حول محور عبادة الله سبحانه، فإن هذه المسألة تطرح بشكل مؤكد. في القرآن الكريم يوجد آية، لعلني ذكرتها مراراً. وعندما كنت في قم. كان هناك عالم عظيم في الأخلاق [ويقصد الإمام الخميني قدس سره]، وكان كثيراً ما يؤكد على هذه الآية، فكنا نفكر بها بشكل دائم حتى كأنها بدت لنا بصورة عجيبة. وهذه الآية في آخر سورة الحشر وقبل الآيات التوحيدية:
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون﴾. ﴿ولتنظر نفس ما قدمت﴾ هي مقصودي في المراقبة والمحاسبة. وكل أعمال الإنسان سوف تظهر في الغد كما في قوله تعالى:
﴿وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله﴾ (البقرة: 110).
فالإنسان يرسل بضاعته إلى العالم الآخر وسوف يلتحق بها. فعليه أن يراقب كثيراً ما يرسله. ثم تتكرر كلمة واتقوا الله، لتأتي بعدها جملة أن الله خبير بما تعملون. وكأن الله يريد أن يخبرنا أننا إذا لم ندقق فإن هناك عيناً دقيقة جداً تنظر وترى جيداً.
كان المرحوم آية الله البروجردي رضوان الله قبل عدة أيام من وفاته يتحدث إلى بعض الذين زاروه وهو منزعج جداً ويقول: لقد انقضى عمرنا ولم نستطع أن نقدم خيراً لأنفسنا. فقام أحد الحاضرين، طبق العادة الجارية في التملق والتزلف للعظماء وبدأ بالتملق ظاناً أن هذا المقام مقام التملق والتزلف وقال: ماذا تقولون؟ نحن يجب أن نقول هذا عن أنفسنا، فأنتم والحمد لله قد تركتم كل هذه الآثار وربيتم كل هؤلاء التلاميذ، وعمرتم هذا المسجد العظيم وبنيتم المدارس. فأجابه السيد بجملة واحدة قائلاً: خلّص العمل فإن الناقد بصير بصير.
﴿إن الله خبير بما تعملون﴾، هنا يطرح علماء أخلاق الإسلامية مستهلمين من هذه الآية الكريمة مسألة يقولون عنها أنها أم المسائل الأخلاقية، وهي "المراقبة".
والمراقبة تعني أن يعامل الإنسان نفسه كشريك لا يطمئن له أبداً وعليه أن يواظب على مراقبته دائماً. كالمفتش الذي يراقب العمل في دائرة ما. فعلى الإنسان أن يعتبر نفسه مثل هذه الدائرة ثم يقوم بتفتيشها دائماً ومراقبة تفاصيلها. فالمراقبة ينبغي أن تلازم الإنسان دائماً. وقد ذكرنا أن هناك أمراً آخر وهو "المحاسبة". وهو يقع في صلب التعاليم الإسلامية. وفي نهج البلاغة يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا". (انظروا كم لهذه الكلمات من عظيم الوقع في النفوس! وهي تحكي عن نفوس الذين حملوا هذه التعاليم وطبقوها). فهناك سوف يوضع الإنسان على ميزان، وتوضح كل أعماله. فإما خفيفاً وإما ثقيلاً. فإذا كان خفيفاً فليس بشيء؟ وإذا كان ثقيلاً لهو مليء.
فلا تقولوا إن الإنسان يمكن أن يكون مليئاً بالذنوب. كلا، فطبق القرآن، فإن الميزان الذي يستعمل يوم القيامة يزن الثقل الحسن. فإذا كانت الحسنات كان ثقيلاً. فمن خفت موازينه فأمه هاوية. ومن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية. فزنوا أنفسكم هنا. هل هي ثقيلة أم خفيفة. وهنا يعين أمير المؤمنين بشكل إجمالي كيفية المحاسبة. وفي رواياتنا يوجد مزيد شرح لهذا المطلب كما جاء: ليس منا من لم يحاسب نفسه ف يكل يوم. لأن الأكثرية هنا من الأطباء، فإنني سأذكر لكم هذا المثل. أنتم الذين تزاولون مهنة الطبابة. لا أحد يحاسبكم، ولكن في آخر الليل تفتحون الصناديق لتحسبوا كم كان دخلكم اليوم، وإذا كنتم دقيقين في عملكم لربما كان لديكم صور للمرض وملفات. وهنا سوف تحسبون كيف كان عملكم. إن إحدى مفاخر الإسلام في أخلاق هي أنه بالاستلهام من هذه التعاليم يوجد لدينا مجموعة من المؤلفات في باب "محاسبة النفس". وقد كتب السيد ابن طاووس "محاسبة النفس"، والكفعمي أيضاً. وفي أغلب الكتب الأخلاقية - ولعله في جميع الكتب التي أرادت أن تعطي موضوع الأخلاق حقه - تطرح هذه المسألة.
* المشارطة والمعاتبة والمعاقبة
في الإسلام إذا أراد الإنسان أن يؤدب نفسه، فإن أول شرط هو المراقبة. غاية الأمر أنه يقال قبل المراقبة والمحاسبة يوجد شيء آخر وهو المشارطة. وهي أن يوقع الإنسان مع نفسه وثيقة أن يكون على طريقة ما. لأن المشارطة إذا لم تحصل، فإنه لن يعين الموارد التي ينبغي أن يراقبها. ففي البداية مثلاً يأخذ على نفسه أن يكون طعامه على الشكل المعين ونومه وحديثه وعمله ومعاشرته وتقسيم وقته. ويدخل هذه الأمور في ذهنه أو يكتبها على ورقة ويمضي عليها تعهده. ثم يبدأ بالمراقبة على هذا الأساس. ثم يقوم كل ليلة بمحاسبة هذا البرنامج، هل عملت بمقتضى ما تعهدت به. فإذا عمل يشكر ويسجد لله، وإذا لم يفعل فإنه يعاتب ويلوم نفسه، وإذا زادت جريمته يعاقب نفسه من خلال الصوم والأعمال الثقيلة. فهذه من الأصول المسلمة في الأخلاق والتربية الإسلامية.