علينا أن نتعاطى مع مسألة الغزو الثقافي بجد؛ وبوصفها
مقولة حقيقية. فالمعركة الثقافية ضدَّ الفكر الإسلامي والجمهورية الإسلامية، هي
مسألة تنطوي على فروع وشُعَب مُتعدِّدة. وإذا شاء الإنسان أن يتوفر على إحصائها
والبحث فيها، فسيجد أنها مفتوحة على مجال واسع جداً.
لو افترضنا على سبيل المثال،
أنَّ الفكر السياسي الإسلامي أصبح عُرضة للشكوك ولعلامات الاستفهام في الصحف
والدوريات، وفي الكتب المختلفة، والمترجمات وحتى في عملية تدوين التاريخ، فستكون
تبعات ذلك خطيرة حينئذ، لأنَّ هذه الثورة ركيزتها الأولى مباني الفكر السياسي
الإسلامي، فإذا لم يكن الإسلام ينطوي على فكر سياسي، لم يكن ثمة معنى لثورةٍ تقوم
على أساس الإسلام، ومن ثم لما انبثق نظام يقوم على أساس مباني (أُصول ومرتكزات) ذلك
الفكر. وفي كل الأحوال، فقد تشكّل هذا النظام وابتنى على أساس الفكر السياسي
الإسلامي، وهو يتحرك في ضوئه. لذلك لا معنى أن نتصوّر بأن يبقى هذا الفكر السياسي
من دون معارض، بل ثمَّ إزاءه أفكار ومدارس ورؤى واتجاهات سياسية أُخرى.
* أهم عناصر الغزو الثقافي
إننا نشهد اليوم الكثير من البحوث والمقالات والكتب والتواريخ وحتى السِّيَر
الذاتية وتراجم الشخصيات، وهي تنهض لمواجهة هذه الصيغة من الفكر السياسي الذي يقوم
عليه نظام الجمهورية الإسلامية. بديهي أننا لا نستغرب أن ينهض أحد المعارضين
الفكريين (للنظام) ويقوم بكتابة مقال أو تأليف كتاب، فهذا السلوك متوقع، وينبغي
علينا أن لا نضيق به، ولا نقع في ردّ فعل شديد إزاءَ ذلك. بل يمكن أن يقوم أحدهم
بوضع كتاب ضدَّ التوحيد نفسه، وهذا أمرٌ طبيعي! فهم يكتبون ضدَّ التوحيد، ونَحنُ
نكتب في التوحيد.
بيدَ أنَّ المسألة تكتسب شكلاً آخر حينما نضع الأعمال المتفرقة
هذه إلى جوار بعضها البعض. إذ نكتشف بالتأمل أن هذه الممارسات لم تكن وليدة صدفة
محضة، بل هي بمجموعها تصدر عن خطة محسوبة، وأنّ ثمة إرادة تحرّك القضية برمتها...
وهي في الواقع جزء من النشاط السياسي لمواجهة الفكر السياسي الإسلامي على صعيد حركة
المطبوعات. ثمة أشكال أُخرى لحركة المواجهة هذه، تتمثل هذه المرَّة بإثارة علامات
الاستفهام حيال عقائد الإسلام الأساسية، والردّ عليها بشكل يكشف عن ذكاء ومَكر.
يحصل ذلك من خلال الكتب العامة، والكتب والملازم الدراسية، ومن خلال صفوف الدرس
نفسها. إلا أنَّ الشكل الأساس والأهم الذي تتلوّن به حركة المواجهة ضدَّ الفكر
السياسي الإسلامي، والذي يُعَدّ من أهم عناصر الغزو الثقافي، يتمثل ببذل الجهود
لجرّ جيل الشباب نحو مستنقع الفساد والابتذال.
* مواجهة الغزو بذكاء
والذي يبعث على الأسف، أننا حينما نتحدَّث عن الغزو الثقافي وضرورة مواجهته، وعن
النهي عن المنكر، فإنَّ ذهنية الناس تنصرف في الغالب نحو مصاديق صغيرة؛ بتأثير
السوابق الذهنية أو أية مؤثرات أُخرى. وثمة نتيجتان سلبيتان تترتبان على هذا
التداعي الذهني، هما:
الأولى: إن مجموعة من الناس السطحيين لا تلبث
أن تحصر القضية في حدود هذه المصاديق الصغيرة، فيعبِّئوا جهودهم ويستهلكوها في حدود
هذه الأمثلة والوقائع الصغيرة العابرة، التي لا أهمية لها.
الثانية: حين يرى مفكرو المجتمع وقواه
الثقافية الخلاّقة، أنَّ القضية تقتصر على مثل هذه المسائل التي لا شأن ولا أهمية
لها، ترى اهتمامهم يتضاءل بأهمية القضية الأساسية المتمثلة بالغزو الثقافي. وهذا ما
يبعث على القلق.
على سبيل المثال يمكن أن تتجلى قضية الغزو الثقافي في سلوك بعض النساء (المتبرجات)
من خلال طبيعة زينتهن ولباسهن وكيفية حركتهن في الشارع، من دون أن يُعير أحد هذا
المنكر الاهتمام الذي يستحقه، ولكن القضيَّة لا تقتصر على ذلك، بل تنطوي على أبعاد
أعمق، إذ هي تكشف في حقيقتها عن وجود جبهة واسعة من قبل العدو، يوظّف فيها الوسائل
المؤثِّرة، الخطيرة والفاعلة، ويستفيد من العلم والتقنيّة، في مواجهة الجمهورية
الإسلامية من خلال الغزو الثقافي. تحتاج هذه الحركة إلى مواجهة جادَّة، وإذا لم
تُواجه بحركة مضادَّة، فهي مُنتصرة بلا ريب. والذي أؤمن به شخصياً، أننا إذا لم
نتحرك بذكاء في مواجهة موجات هذا الغزو، بحيث نوظّف له الوسائل الصحيحة الناجحة،
ونعتمد الحكمة والتدبير، فإنَّ آثاره ستكون خطيرة جداً ومدمِّرة.
علينا إذن أن
نتعاطى مع هذه القضية، وأن نتجنب إعمال الأذواق والأمزجة الخاصة. فإذا كان المسؤول
في أحد مجالاتنا الثقافية، ذوق خاص ومزاج خاص إزاء مسألة معينة، فلا ينبغي أن
يتحوَّل هذا الذوق أو المزاج إلى معيار خاص وملاك في الموضوع. وإنما ينبغي رؤية
الخطر بحجمه الحقيقي، وإدراك ما ينطوي عليه من أهمية(1).
* خطورة الغزو الثقافي
الغزو الثقافي الذي أكّدنا عليه مراراً، هو تعبير عن قضية واقعية واضحة، لا يسعنا
أن نقضي على وجودها عملياً بمجرد إنكارها. الغزو الثقافي هو واقع قائم وموجود، وإذا
أنكرناه نكون مصداقاً لكلام أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث يقول: "وَمَن نام لم
يُنم عنه". فإذا غفلت أو أخذك النوم وأنت في خندقك، فذلك لا يعني أبداً أن عدوّك في
الخندق المقابل اعتراه النعاس وأخذه النوم أيضاً. لذلك يجب أن تحرص على أن تستيقظ
وتخرج من حال الغفلة! علينا أن ننتبه أنَّ الثورة الثقافية في خطر. كما أنَّ أصل
ثقافتنا الوطنية والإسلامية هي تحت طائلة تهديد الأعداء(2).
لا يسعنا أن ننكر ما هو
موجود واضح للعيان (يعني به مظاهر الغزو الثقافي) في الجامعة وخارج الجامعة، بل
وحتى في وسائلنا الإعلامية وأجهزة الاتصال العامة التي تختص بنا. كما لا يسعنا أن
ننكر ما هو موجود في ثنايا الكتب التي تؤلف، وتلك التي تُترجم... وفي الشعر الذي
ينظم ويلقى... وفي البرامج الثقافية العالمية... التي تبدو في الظاهر وكأنّها لا
صلة لها بنا... مما يحيط بأخباره السادة الحضور، لكونهم من العناصر الثقافية. ثَمَّ
تهيّؤٌ واستعداد ثقافي في كلّ مكان ضدّ الثورة، وهذا الاستعداد من الخطورة بمكان...
وهو لا يشبه ما كانَ موجوداً قبل مائة عام مثلاً.
أجل، قبل مائة عام كان هناك غزو ثقافي ضد الإسلام، ولكن ليس على الشاكلة التي هو
عليها الآن. والفارق بين الحالتين يمكن أن نوضحه بمثال، فعندما يواجه الإنسان عدواً
كسولاً لا همة له، سيكون على ضرب من الاستعداد العسكري يختلف تمام الاختلاف عن
الاستعداد والتجهيز العسكري الذي يتحلى به الإنسان عند مواجهته لعدو يقظ منتبه. كان
العالمُ الإسلامي يومذاك يغطّ في سبات عميق، ويعيش حالة خدر بل كان ثملاً غائباً عن
الوعي. لذلك كان العدو يكتفي آنذاك بضربات يوجهها إلى الجسم الإسلامي في بعض
الأحيان، أو أنه يبث (سمومه) في دمائه وينتهي كلّ شيء. أمّا اليوم فإنَّ الإسلام
وهو العدو الرئيس لدنيا الغرب أضحى يقظاً... الإسلام اليوم أمسى ذكره يترافق مع ذكر
مواقف ممتدة لا تنتهي، كتلك التي تنطوي عليها شخصية مثل شخصية الإمام الخميني رضوان
اللَّه عليه... وله اليوم كلّ هذه الذخائر الثورية... والشباب الملتزم.
هذه
الحالة لا تسمح للآخر أن يتعاطى مع الإسلام اليوم بإهمال وعدم جديّة(3). ثَمَّ
اليوم غزو ثقافي عظيم يمارس ضدَّ الإسلام وفي مواجهته. وهذا الهجوم الواسع لا يقتصر
على الثورة الإسلامية ولا يستهدفها لوحدها، بل هو يتعدّاها إلى الإسلام نفسه.
(1) حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20 9 1370.
(2) المصدر نفسه.
(3) حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20 9 1370.