لا أدري ماذا دهانا، حتى تُحقن الثقافة الغربية بمثل هذا الشكل في أبداننا، في حين إننا نملك إمكانية الاختيار؟ ما هو حاصل الان أن موج الثقافة الغربية يغزونا وينفذ في وجودنا من خلال الراديو والتلفزيون وكتب الموضة والموديلات والمجلاّت، ومن خلال الموج الدعائي والصخب الإعلامي.
* ضرورة الاستفادة من ثقافة الآخرين
يحصل أحياناً أن يكون العلم بيد أعدائنا، فنذهب إليهم وننحني أمامهم لكسبه... ليس في ذلك ضير. فالعلم أرفع شأناً من أن ينصرف عنه الإنسان لعداوة مع من يستحوذ عليه، ولكن ما نريد الوقوف عنده هو أن يخضع الإنسان إلى تأثير العدو ويكون تابعاً له وتحت سلطته، وذلك في المسائل التي لا تنتسب إلى العلم... أي في السياسة والثقافة وما شابه ذلك. ونحنُ الآن نعلنها بصراحة... إن العالم شهد تقدماً في العلوم، وأبقانا متخلفين قرنين أو ثلاثة قرون عن ركبه... علينا أن نلحق بالركب ونبلغ التقدم... علينا أن نستفيد من علومهم ونكتسبها.
الدعاة الأوائل لارتباط إيران والتحاقها بالغرب (المتغربون الأوائل) لم يقولوا هذا، وإنما دعوا إلى أن تلتحق إيران بالغرب ظاهراً وباطناً... في الشكل والمظهر... وفي اللباس... وأن تكتسب شكلاً غربياً في الأخلاق وفي الارتباطات والعلاقات اللامشروعة وفي كلّ شيء. وقد لمسنا تبعات هذا الارتباط غير السليم أواخر العهد الملكي السيىء، وما زالت رواسب ذلك العهد في مجتمعنا حتى الآن. التعليم والتعلم أمران ضروريان... وعلى كل واحد منّا أن يتعلّم... فحين نعود إلى الإسلام في الحديث المشهور "اطلبوا العلم ولو في الصين"، نجد أنه لم يكن ثمَّ ما هو أبعد منها من البلدان عن وطن المسلمين. ومؤدى المثال أن يكابد المسلم المشاق ليكسب العلم وليتعلّم. هكذا علّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين... ونحنُ اليوم على هذه العقيدة... علينا أن نستفيد من جميع العلوم، ولكن بشرط أن يكون مبتغانا تعلم العلم ونيله، وليس كسب مفاسد الأخلاق... التلوّث الأخلاقي... الإدمان... الأمراض الخطيرة المميتة كالطاعون الأمريكي المسمى بالأيدز، وبقية ضروب المفاسد الأخلاقية.
ينبغي أن ينفتح المحيط الاجتماعي على قضية التعليم، بحيث تشيع حالة التعليم والتعلّم وتنشط في أجوائنا. بديهي إننا نحتاج إلى التربية والتهذيب الأخلاقيين إلى جوار التعليم. ولو سلكنا الطريق السليم في التعليم، فهو ينطوي على التزكية.
كيفية استهلاك الثقافة الأجنبية
لقد تحدّثت مرَّة عن الثقافة؛ وقلت لا ضير من تلقي ثقافة الآخرين، ولكن على نحو يتم فيه التمييز بين كيفيتين. ولتقريب المسألة نضرب لها مثالاً من عمل جسم الإنسان... فجسم الإنسان يتعاطى مع العناصر الغريبة عنه بكيفيتين... في الكيفية الأولى يتناول الإنسان طعاماً يحوي فيتامينات مختلفة، فيخلط الطعام باللعاب ويدفعه إلى داخل المعدة. وحينئذٍ تمتص المعدة ما تراه مفيداً مناسباً للجسم، وتترك الباقي، فتدفعه وتلفظه. هذا هو التعاطي الايجابي. وبإزائه ثمة نوع آخر من التعاطي، إذ نأتي بالإنسان ونقيِّد يديه بالقيود، ثم نحقن في بدنه مادة لا يريدها ولا يرغب بها وهذه الحالة هي غير الحالة الأولى في التعاطي مع العناصر الغريبة عن الجسم، ولكن يمكن للمسألة أن تهون لو أن الحقن في الحالة الثانية، يتم من قبل طبيب عارف، وحريص على الإنسان.
ولكن ماذا لو كان هذا الطبيب عدواً، فماذا تراه يحقن بجسم خصمه؟
هذا المثال، يلخص قصتنا مع الثقافة الغربية، فنحن اليوم مع الأسف. نستهلك الثقافة الأجنبية، وهي تجدُ طريقها سالكاً إلى أجسامنا، من دون أن يصدر عنّا ردّة فعل، وهذا هو ما يصطلح عليه بالغزو الثقافي. الاستفادة من ثقافة الآخرين هو أمر يبعث على التكامل. ولكن ثمَّة فرق بين حالة يمتلك فيها الإنسان حرية انتخاب الطعام أو الدواء الذي يوائم جسمه وصحته، بحيث يختار ما يحتاج إليه من بين مئات الأطعمة والأدوية، بمعرفة ويقظة ووعي، وبين أن يُجبر على طعام أو دواء يسبب له ضرراً. إذا شئنا أن نشبّه الشعب الذي يتلقى ثقافة الآخر في إطار التبادل الثقافي، بمثال من الحياة الإنسانية، فيمكن أن نستفيد من حالة إنسان يذهب إلى السوق وينتخب ما يشاء من الطعام والدواء. أمّا في الغزو الثقافي، فإنَّ الشعب المستهدف يكون كالمريض الذي سقط إلى الأرض لا يقوى على الحراك. ثم يأتي إليه العدو مُنتهزاً الفرصة، ويحقنه بدواء، وحينئذٍ علينا أن نعرف طبيعة الدواء الذي يحقنه العدو في جسم خصمه؟ الفرق واضح بين الحالتين... بين أن تنتخب الدواء أو الغذاء المناسب لحاجة بدنك، وبين أن يختار لك عدوّك.
* ماذا نريد من التبادل الثقافي
التبادل الثقافي هو مبادرة تنطلق من عندنا، أما الغزو فهو مُبادرة يمسك بها العدو، ومعركة يشنُّها العدو ضدّنا، كي يستأصل ثقافتنا الذاتية. لذلك نعد التبادل الثقافي ايجابياً، أما الغزو الثقافي فهو أمر سلبي. ومن جهة أخرى، ينطلق مسار التبادل الثقافي في زمن قوة الأمة واقتدارها وامتلائها، أما الغزو فيحصل في زمن ضعف الأمة وهزالها. هذه أمور ينبغي أن ننتبه إليها، فالذي كان يحصل في العهد البهلوي البائد هو ممارسة من هذا القبيل، حيث كان الشعب يُغذّى بثقافة الأجانب. بمعنى أنَّ أخذ ثقافة الآخر في الماضي لم يكن بهدف تحقيق التكامل، بل بهدف إغراق الشعب بمستهلكات الثقافة الأجنبية التي لا قيمة لها. والشكلُ السليم هو أن يكون ثمة اختيار وانتخاب، لكن لم يكن للشعب اختيار في المسألة. وإذا شئنا الإنصاف، فإنَّ ثقافة الغرب الآن، تنطوي على عناصر ايجابية مفيدة... وهذه مصيرية بالنسبة إلينا... علينا أن نجذبها ونتعلمها... الأشياء النافعة في ثقافة الغرب كثيرة... ولو لم يكن ثمة وجود لهذه الأشياء النافعة لم يكن الغرب يصل إلى ما وصل إليه اليوم.
أجل لو عثرنا في معارف الغرب على ما يناسبنا، فعلينا أن نجذبه، ونتعاطى معه كما يتعاطى الإنسان السليم مع الغذاء، إذ هو يجذب المفيد لجسمه ويدفع الضار. وكذا الحال مع منتجات ثقافة الغرب إذ علينا أن نتعامل معها تعامل الجسم السليم الحي... نأخذ ما يفيدنا ونلفظ ما لا ينفعنا. في ضوء ذلك، لا يصح أن نتعامل مع ثقافة الآخر، تعامل الإنسان الفارغ، الخالي من أي شيء... الفاقد لكل خلفية، كما لا يصح أن نتعامل معها تعامل الإنسان الحائر الثَّمِل. فالهدف من التبادل الثقافي هو إثراء الثقافة الوطنية وسوقها نحو التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف إلى استئصال الثقافة الوطنية واجتثاثها.
* نماذج ايجابية وسلبية
في مسار عملية التبادل، تأخذ الأمة ما تراه لائقاً جيداً من ثقافة الآخرين، وما هو مورد علاقة بالنسبة إليها. افرضوا مثلاً... إن الشعب الإيراني رأى في الشعوب الأوروبية إنها تتصف بالمثابرة (بمعنى الصبر والإصرار على انجاز الشيء) والتوثّب وروح المغامرة، فلو إنه أخذ هذه الصفات منها، لكان ذلك أمراً حسناً. وفي مثال آخر، نرى أنَّ الإيراني حين يذهب إلى أقصى نقاط شرق آسيا يجد الناس تتحلى بالإحساس بالمسؤولية، وبوجدان يقظ في الانكباب على العمل... وبالمثابرة والانضباط والنظم... وتظهر شوقاً وافراً للعمل... تستثمر الوقت وتقدّر قيمته... تتبادل المحبة فيما بينها، وتتحلى بالأدب، فلو أنه اكتسب منها هذه الخصال لكان ذلك أمراً حسناً.
يبادر الشعب في التبادل الثقافي إلى النقاط الايجابية، وما يقود إلى تكامل ثقافته وإثرائها فيستعمله، تماماً كالإنسان الذي يُصاب بالضعف في بدنه، فينكب على تناول الغذاء الجيّد أو الدواء المناسب، لكي يتعافى وتعود إليه السلامة مجدداً. أمّا في الغزو الثقافي، فإن الأمة المستهدفة بالغزو تُغذى بأمور سلبية وثقافة ضارَّة. على سبيل المثال، عندما بدأ الغزو الثقافي الأوروبي لبلدنا، لم يصطحب الأوروبيون معهم قيماً من قبيل روحية احترام قيمة الوقت... الشجاعة والإقدام... تحمل الأخطار في مواجهة الأمور... وروحية التدقيق والمثابرة في البحث العلمي، ولم يريدوا لشعبنا أن يتربى على هذه القيم ويتبعها، لكي لا يكون الشعب الإيراني شعباً يتحلى بالمسؤولية وبضمير يقظ في الانكباب على العمل... ولا أن يتصف بالمثابرة العلمية. كلّ الذي جلبوه إلى هذه البلاد هو التحلّل والإباحية الجنسية. ثمّة فارق بين الغزو الثقافي وبين التفاعل أو التبادل الثقافي. يُعبّر التفاعل الثقافي عن ضرورة تحتاج إليها الشعوب. فليس ثمة شعب من الشعوب يستطيع الاستغناء عن الإفادة من معارف الشعوب الأخرى... والثقافة والمسائل التي تندرج في العنوان الثقافي هي من بين ذلك. لقد كان مسار التاريخ كاشفاً أبداً، عن حالة التفاعل هذه ويشهد عليها.
قادت العلاقة بين الشعوب والتواصل فيما بينها، إلى التفاعل فيما بينها على صعيد آداب العشرة... الأخلاقيات العامة... العلم... شكل اللباس... طراز الحياة... اللغة... المعارف... والدين. وهذا الضرب من التفاعل يفوق في أهميته عملية التبادل الاقتصادي والتجاري.
شهدنا طوال التأريخ أمثلة قادَ فيها التفاعل (التبادل) الثقافي إلى تغيير دين بلد بأكمله. فالذي حصل على سبيل المثال في شرق آسيا، أي في شرق المنطقة الإسلامية، هو دخول الإسلام إلى بلاد من أمثال أندونيسيا وماليزيا. وأجزاء مهمة من شبه القارة، عن طرق أفراد قلائل (آحاد) من الشعب الإيراني. ولم يتم نشر الإسلام هُناك عن طريق ممارسة المبلغين للدعوة... وإنما تحوّل الشعب الأدونيسي الذي ربّما يعد اليوم أكبر الشعوب الإسلامية، إلى الإسلام عن طريق حركة التجار والسيّاح الإيرانيين. إذن لم يصل الإسلام إلى تلك المنطقة للمرة الأولى، لا عن طريق الدعاة والمبلغين الدينيين، ولا عن طريق السيف والحرب، بل كانت الفضيلة لعملية التزاور والتبادل الثقافي.
لماذا نذهب بعيداً، ونحن نجد أن شعبنا تعلّم أشياء كثيرة طوال تأريخه من الأمم الأخرى. وحالة التفاعل هذه تعدّ أمراً ضرورياً للعالم برمته، لكي تبقى الحياة الثقافية والمعرفية نابضة بالحركة والحيوية والتجدّد. هذا هو ما نعنيه بالتبادل الثقافي الايجابي والمطلوب.