يبدو للوهلة الأولى وجود تغاير بل حتى تباينٍ بين مفهومي
الإخلاص والسعادة، أما منشأ التغاير فواضح من جهة عدم الترادف بين المفهومين ومع
عدم الترادف يحصل التغاير، أما التباين فقد يُلحظ من جهة أن الإخلاص حركةٌ للنفس من
الذات باتجاه الخارج في حين أن السعادة إحساسٌ منشؤه الداخل أو الخارج لكن مردّه
إلى الذات، أي أن الإخلاص وجهته من الذات إلى خارجها والسعادة وجهتها من الداخل أو
الخارج إلى الذات، فالذي يتم الإخلاص له هو عادةً الذي تناله آثار هذا الإخلاص أي
أن الطرف الآخر غير الذات، لذا قد يخلص الإنسان لذلك الطرف من دون أن يحصل على
مقابل حتى لو كان إخلاصاً في مقابل إخلاصه، أما السعادة فهي للنفس وقد يكون إخلاص
الطرف الآخر سبباً أو منشأً لها.
* الفارق بين العلاقة مع اللَّه والعلاقة مع الناس
إن المقدمة السالفة الذكر تعتبر صحيحةً إذا ما قيست إلى العلاقات بين الناس حيث
المصالح تتداخل وتتباين وتتضارب وغالباً ما يكون الواقع هو التضارب بين مصلحة الذات
ومصلحة الآخر، لذا عندما يخلص أحدنا للآخر فذلك لتحقيق مصلحة من ذلك الآخر تعود
بالنفع إلى الذات وفي حال لم يحصل هذا النفع فإن هذا الإخلاص لن يدوم طويلاً بل
يمكن أن يتحوّل إلى خيانة، من هنا فإن السعادة التي يمكن أن تترتب على الإخلاص في
العلاقة مع البشر، تتحقق بدخالة النفع الذي تحصل عليه الذات.
أما في العلاقة مع
اللَّه سبحانه وتعالى فالأمر مختلف، فليس هناك طرف آخر له مصالح ومنافع، وكل
المقدّمات التي يتولى أحدنا بذلها في سبيل اللَّه تعود بالنفع إليه وحده وليس هناك
مصلحة للَّه لا من أعمالنا المخلِصة ولا من أعمالنا المشوبة بالرياء، صحيح أن الذي
يصل إلى اللَّه هو التقوى والإخلاص، لكن وصول الشيء لا يعني حلوله في مقام سد
الحاجة إليه، بل يعني أن العمل قد تجاوز جملة عقبات للنفس وبلغ العلى من دون أن
يكون لهذا العمل أي تأثير على الذات القدسية، لذا يمكننا هنا أن نتصور أثر الإخلاص
المرتد على ذات الإنسان سعادةً وراحةً واطمئناناً من دون وساطة النفع للطرف المقابل
أو دخالة الانتفاع الآتي من ذلك الطرف كما هو الحال بالنسبة للعلاقة بين الآدميين.
* آلية تحقيق الإخلاص للسعادة
وعندما نذكر السعادة هنا فالأمر يرتبط بالدارين، بالدنيا والآخرة، أما بالنسبة
للآخرة فالأمر جلي العُلقة، ولا يحتاج إلى استدلال، فمجرد أن يحصل الإخلاص فإنّ
الأعمال تُرفع وتُقبل وتتراكم وتؤدي إلى الفوز والنجاة يوم القيامة وليس بعد هذا
الشعور بالسعادة الأبدية أي شعور... أما الأمر الذي يحتاج إلى بعض الاستدلال فهو
آلية تحقيق الإخلاص للَّه تعالى للسعادة في الدنيا، وللإجابة على هذا السؤال لا بد
من التوقف عند أمرين:
1 - موطن السعادة.
إن موطن السعادة هو النفس، وسواءٌ كانت مستقرَّةً أم متزلزلة فإن حركتها تظلّ في
إطار النفس، والنفس تسعد عادةً عندما تحقق ذاتها بإزاء الآخرين لا بإزاء اللَّه
تعالى، فالإنسان كلما ترقّى كمالاً كلما شعر بوهنه وضعفه ولاشيئيته أمام اللَّه، في
حين أنه يشعر بقوة حضور نفسه في الوجود الممكن دون أن يؤثر ذلك في نفسه سوى التواضع
والحلم والرحمة، إذن سعادة النفس في شعورها بتحقيق ذاتها، فهل الإخلاص يساهم في
ذلك؟
2 - الأسباب التي تؤدي إلى السعادة والتي منشؤها الإخلاص:
أولاً: الإخلاص يساهم في زيادة الاطمئنان للقلب الذي ينعكس سعادةً للنفس.
ثانياً: الإخلاص يورث الحكم واستنارة البصيرة مما يساعد صاحبه على التدبر في عواقب
الأمور وعلى استبصار خفايا المسائل، ولا شك أن الحكمة تفضي إلى اطمئنان النفس
وسعادتها.
ثالثاً: إن الإخلاص يورث محبة اللَّه التي تنعكس وتتجلى في محبة الناس وهذه المحبة
أيضاً تؤدي إلى السعادة.
رابعاً: إن الإخلاص والخوف من اللَّه يفضي إلى المهابة والعزة والرفعة بين الناس،
فمن أخلص للَّه هاب منه كل شيء، وهذا أيضاً يؤدي إلى السعادة.
وهكذا يمكن القول بأن للإخلاص أثراً في قبول الأعمال واستجابة الدعاء وبلوغ الآمال
وبالتالي أثراً في السعادة الأخروية، وبما أن الدنيا هي ظاهر الآخرة، فإن الحالة
المفترضة التحقق في الآخرة لا بد أنّ لها صورتها الظاهرية في الدنيا التي تتلاءم
معها ولا تختلف في ماهيتها، فمن سيسعد في الآخرة بناء على أعماله الدنيوية فإنه في
الدنيا سعيدٌ ونفسه مطمئنة وقلبه آمن وإن كان ظاهراً يعيش البلاء والمحن والصعوبات،
هذا بالإجمال، أما لو أخذنا بعين الاعتبار الآثار والنتائج المترتبة على الإخلاص في
عالم الشهادة فإن هذه الآثار برمتها داعيةً إلى سعادة النفس وشعورها بالراحة،
فالإخلاص داع إلى محبة الناس في حين أن الرياء يبعد الناس وينفرهم، والإخلاص داعٍ
إلى مهابة الناس والرياء داع إلى الاستخفاف والاستهانة، والإخلاص داع إلى الاستبصار
والتبصّر وحسن الإدراك للأمور والرياء داع إلى الرين وغشاوة القلب وسوء البصيرة
وانعدامها، والإخلاص داعٍ إلى جريان الحكمة مع الجهل أو عدم المعرفة والرياء داعٍ
إلى التلكؤ عن النطق مع الفهم والمعرفة، وهذه الآثار كفيلةٌ بأن تغطي مساحةً هامة
من السعادة للنفس التي تتوق إليها، لكن يبقى الأصل هو السعادة الأبدية، من هنا لو
شعر المخلصون بهذه الآثار فإنهم سيتفهمون أنفسهم بأنها قد طمحت إلى تحقيق هذه
الآثار الواهية وإن كان سببها هو الإخلاص، لذا سيكون إخلاصهم محلاً للشك حتى تترفع
أنفسهم عن هذه الآثار وتطمح فقط إلى رضوان اللَّه تعالى، وتقول كما قال الإمام
الحسين عليه السلام في دعاء عرفه "إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار".