حوار مع الدكتورة نجاة إبراهيم
سكنة حجازي
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة﴾
(التحريم: 6)
﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾
(هـ.ز) صحيح أن عمري أربع سنوات إلا أنني أستطيع أن أتحدث بلساني ولسان أختي
التوأم معي، فقد عرفنا الخال والعم والجد ولم نعرف الأب منذ سنتين كلهم يحبوننا
ويمنحوننا كل ما نريد لدرجة التدخل مع والدتي لمنعها من محاسبتنا إذا ما أخطأنا،
لكن بصراحة، بدأ هذا يقلقنا لأننا بتنا لا نعرف الحدود ولأننا نرى القلق عند أمي
التي لا تستطيع توجيهنا كما هو مطلوب.
(ح.ز 6 سنوات) أنا بعكس اخوتي التوائم عرفت
والدي بل تعلّقت به لشدة تعلقه بي فقد كان يلاطفني ويضمني ويعانقني عند كل دخول أو
خروج من المنزل. أنا أفتقده في كل لحظة فلا تتصورون مدى معاناتي لفقدي له.
(س.غ 13
سنة) قد تقولون إن هذا العمر لفتاة يغنيها عن الحاجة إلى الأب، لكن حنان أمي
ورعايتها لا يشعراني أبداً بالأمان والاستقرار الذي أشعر به مع والدي، حتى زوج أمي
الذي أحترمه وأقدره لم يغنني عنه بل شعرت بحاجة أكثر إليه.
ملاحظة هامة: بعد فقد
أبي، أصبحت اعتمد على نفسي في مواجهة مشاكلي وحلها وهذا ما أكسبني قوة الشخصية
والخبرة الحياتية أكثر من أي فتاة في مثل سني!
(م.غ 14 سنة) ربما أكون قد سألت عن
والدي سابقاً، وشعرت بالشوق إليه، لكني لم أفكر قط، أني سأصل إلى مرحلة أشعر
بالحاجة الشديدة إليه، خاصة عندما تنهال عليّ التوجيهات والارشادات تارة، والتأنيب
والملاحظات تارة أخرى. لا أحد يفهمني ويقدّر رجولتي وشخصيتي حتى أنهم يخطئون
ويحاسبونني إذا ما تصرفت على أساس خطئهم. أما الأسئلة الحرجة والخجولة. الصعبة التي
تراودني عن بلوغي وتكليفي والتغيرات في جسمي ومزاجي... فمن يسمعها؟ من يجيبني عنها؟!!
للإجابة على هذه التساؤلات والوقوف على هذه الحاجات كان
لنا هذا اللقاء مع الباحثة وأستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية الدكتورة نجاة
إبراهيم:
* ما هو دور الأب التربوي في الأسرة (مع الأولاد)؟
الأب يلعب دوراً أساسياً في الأسرة فهو يمثل القانون والنظام والسلطة وهو المرشد
وهو عنصر الأمان والحماية، وهو الصورة التي سيتماهى بها في علاقاته وحياته
المستقبلية (يقلدها).
* ما هو أثر الوفاة (وقع نبأ الوفاة) على الأطفال،
نفسياً؟
موضوع الوفاة من المواضيع الهامة ومن التجارب القاسية التي يتعرض لها الإنسان، وليس
من السهل تقبلها عند الكبار فكيف عند الصغار؟ كيف يمكن أن نفسّر لهم هذا الغياب؟
الأسرة هي الميدان الأول لنمط العلاقات الاجتماعية والتجارب التي يمر بها الطفل من
خلال الوالدين والأخوة والأخوات، تبني له شخصيته الاجتماعية، وغياب أي طرف سيحدث
خللاً في هذه الشخصية فكيف إذا كان هذا الطرف هو الأب.
* ما هو الفراغ الذي يحدثه غياب الأب (وفاته)؟ ومن يملأ
هذا الفراغ؟
إن الفراغ الذي يحدثه غياب الأب نسبي (متفاوت حسب عمر الطفل والدور الذي كان يلعبه
الأب في حياته) وإذ عرفنا دور الأب نعرف نوع الفراغ الذي سيتركه غيابه من غياب
السلطة والقانون من جهة والصورة الذكورية من جهة أخرى. فبالنسبة للصبي فقد الصورة
التي سيتماهى بها وبالنسبة للبنت صورة الجنس الآخر والعلاقة معه، لأنها ستترك
آثارها على مستقبلها من حيث معرفة التعامل معه في أسرتها وإدراكها للجنس الآخر، لذا
كان افتقاده يشكل فجوة وثغرة تجعل كل من الصبي والبنت يشعر ويتأثر بها. أما البديل
الذي يسد هذا الفراغ، فيمكن أن يكون العم أو الخال أو الجد إذا كان على مستوى من
الوعي أي الرجل الذي يستطيع أن يقوم بدور الرجل في الأسرة على أن ذلك لا يمكن أن
يكون كالأصيل، فالصورة الذكورية هي المطلوبة.
والفراغ العاطفي يمكن للأم أن تقوم
به، إذا كانت واعية وعلى قدر من من المسؤولية، وذلك عندما تقوم باحتضان الأولاد،
إضافة إلى نقل الصورة الجميلة (الايجابية عن الأب) بنقل المبادىء والقيم والأنظمة
التي تحفظ النظام والقانون والسلطة؛ عند ذلك تتكامل الصورة بالأمان والاستقرار من
خلال العاطفة من جهة وحفظ السلطة والقانون والصورة الذكورية من جهة أخرى على أن
الذي يقوم بدور الأب يبقى واضحاً أنه ليس الأب الأصلي، وأنه لا يتواجد معه كل
الوقت، بل يلجأ إليه وقت الحاجة بشرط أن يكون مقبولاً من الولد ويمثل الصورة الجيدة
عنده وهنا ملاحظة مهمة فوجود البديل لا يلغي دور الأم ولا يعني حرمانه منها لأن لا
أحد يستطيع ذلك لا شرعاً ولا قانوناً ولا إنسانياً.
والمسألة المهمة الأخرى أن زمن
وجود البديل يمكن أن يبدأ عند فقد الأب، بمعنى عدم إسقاطه على الطفل وأن يقوم
بالدور (من تقرّب ورعاية وحماية) حتى ينال ثقة وقبول الطفل. المهم أن يكون الطرف
الذي تناط به عملية التربية على مستوى من الوعي والإحساس بالمسؤولية، وإدراك
الأبعاد النفسية للطفل وإعطائه حقه من الرعاية والحنان وتعويده المسؤولية التي
تجعله إنساناً سوياً في المستقبل.
* ذكرتِ أن البديل غير متساوٍ في الدور، فما هو دور زوج
الأم وهل يمكن أن يقوم بدور الأب؟ وكيف؟
في الحقيقة إن زوج الأم يختلف عن غيره من حيث القبول بل قد يكون مرفوضاً لسببين:
أ - لأنه أخذ دور الأب الذي كان الطفل قد أحبه وتعلق به.
ب - لأن وجوده طارئ، وهو سيستولي على قسم من وقت الأم واهتماماتها، بالإضافة إلى
وجود أخوة غير أشقاء وقد يلعب الآخرون (مجتمع وأقارب) دور تسميم أفكار هذا الطفل
(تحريض ضد زوج الأم).
وعمر الطفل مهم أيضاً فإذا كان صغيراً لا يعي تماماً ما يدور حوله من التعلق
بالأب... فإذا كان الزوج واعياً ومتفهماً فسيلقى قبولاً عنده. أما إذا كان كبيراً
وعنده مستوى من الوعي والإدراك فسيرفض بل يمكن أن يُحدث عنده تعقيدات وأزمات نفسية
ويصعب إقناعه به لأن المسألة مسألة إحساس لا إقناع. وهو بالنهاية يبقى البديل الذي
يحفظ الصورة المهمة بالنسبة للطفل، مع استكمال الشروط والمواصفات.
* يعني هناك تشجيع على الزواج بعد فقد الزوج؟
هذا يخضع لمعايير عديدة، منها: حاجة الأم إلى منتج لأنها غير منتجة (لا عمل يساعدها
لإعالة أسرتها). ومنها: حاجة الولد لرعاية مطلقة وهو لا يزال صغيراً. ومنها: حالة
الأم النفسية؛ فما الفائدة من بقائها بدون زواج إذا كانت ستنظر إلى الأولاد على
أنهم عبء ومانع من أن تعيش حياتها بشكل طبيعي؟ وذلك بشرط أن تُحسن هذه الأم اختيار
الشريك الذي سيكون مساعداً لها متفهماً لأولادها...
* من المعروف أن هناك مؤسسات رعائية ودور للأيتام فما هو
الدور الذي يمكن أن تقوم به؟ وهل يغني عن الأسرة والأب خصوصاً؟
مع شكرنا وتقديرنا لجهود هذه المؤسسات إلا أنها في حالة وجود الأم مما لا شك فيه لن
تكون بديلة عنها. ففي المؤسسة مسؤولة واحدة عن عدد كبير من الأطفال ومن زاوية علم
النفس تعتبر عاطفة الأمومة فيتامين النمو. لا شك أن المكان الطبيعي للولد هو حضن
الأم إلا إذا كان يتعرض للضرب والعنف وهذا نادر جداً. لقد أجريت دراسات لأولاد
يعيشون داخل مؤسسات رعائية وآخرين موجودين مع أمهاتهم المنحرفات داخل السجن وكانت
النتائج إيجابية جداً لأن عاطفة الأمومة أقوى من أي شيء آخر. والخلاصة أن المبدأ
أن يعيش مع الأم إلا إذا كان البيت لا يؤمن الرعاية والاحتضان والهدوء والاستقرار
وكان ذلك في المؤسسة فهي الأفضل.
* ما هي المشاكل والأمراض النفسية التي يمكن أن تنشأ عن
الطفل اليتيم؟
أريد أن أبيّن أولاً إن المشاكل النفس حركية، أو النفس حسية، التي تظهر عند الأطفال
هي إنذار ورسالة من الطفل لوجود خلل عنده وهذا تنبيه للمحيطين به لمعالجة وإشباع
هذا النقص.
ثانياً: إن هذه الأمراض أو الأعراض يمكن أن
تصيب الطفل وهو مع والديه إذا لم يُعط حقه من العناية والعطف والحنان، أو إذا عاشا
المشاكل والعنف وشعر الطفل بالقلق واللاإستقرار. وعند وفاة الأب إذا لم تُلبِّ الأم
حاجات الطفل نتيجة حزنها وقلقها وذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه فالطفل، وفي مراحله
الأولى خاصة، يجب أن يستكمل نموه النفسي والحركي وبالتالي ستظهر عنده هذه الأعراض
من انزواء وعدم ثقة بالنفس وغيرها وقد تكون النتائج مختلفة تماماً إذا ما أحيط
بالرعاية الاجتماعية والاحتضان من قبل المؤسسات (مع بقائه مع أمه)، كأولاد الشهداء
الذين توفر لهم الهالة الدينية والاجتماعية والثقافية والأسرية فإن الشعور بالفقد
والعجز سيكون ضئيلاً وبالتالي فإن الانعكاسات قد تكون ايجابية، كالاعتزاز بالنفس
والشعور بالكرامة والفخر، مع الشعور بالحاجة إلى الأب وعاطفة ودور الأبوة الذي لن
يغيب أبداً.
* ما هو الدور النفساني للمدرسة؟
المدارس اليوم، والتي تهتم بمستوى معين، أصبحت تستعين بل توظف مختصاً نفسانياً
يتابع أوضاع التلاميذ ويهتم بما يعانون من مشاكل نفسية. وقد أصبح ضرورياً لتحليل
الأسباب العائدة للإعاقات التي تمنع من الوصول إلى المستوى المطلوب. من هنا ضرورة
إدماج الطفل اليتيم أو الذي يعاني من حالة نفسية معينة، مع الآخرين حتى لا يشعر
بالعزلة عن المجتمع ويرى بأنه يعيش حالة فردية. وفي المدرسة سيكون التركيز على
البعد العائلي وحالة فقدان الأب لأنه سيشكل عاملاً مؤثراً يؤدي إلى التأخر الدراسي.
* بالإلتفات إلى مسألة معاملة اليتيم وتمييزه عن الآخرين
في العقاب والتوجيه ما أثر ذلك عليه؟
إن التمييز المطلوب هو تأمين الظروف الملائمة والحاجات اللازمة لنموه بشكل طبيعي
لكي يكون فرداً كغيره من الأطفال، لكن إغداق العاطفة، حتى مع وجود الأهل، بدون حساب
وبدون مبرر ستتحول إلى عنصر إفساد لا إصلاح له. إذاً، هو كغيره من الأطفال يجب أن
يشعر بالنظام والرقابة ويكفي أنه فقد المشرف على النظام (الأب) في البيت فلا يجب أن
يشعر بالفقد أيضاً بالمدرسة. هنا نصل إلى دور الأقارب، خصوصاً الجد والجدة، فيمكن
أن يمنحوه العاطفة اللازمة لكن بدون إفراط حتى يبقى متوازناً مع نفسه ومع الآخرين.
وأخيراً، إشارة هامّة وأساسية: بأن اليتم قضاء وقدر إلهيين فاللَّه يتكفل اليتيم
ويرعاه ويؤدبه ويربيه فإذا صار على النهج الرباني كان على خطى الأنبياء والأولياء،
فنحن لا ننسى أن كثيراً من الأنبياء وعلى رأسهم النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه
وآله وعليهم أجمعين قد تربى يتيم الأب والأم وقال صلى الله عليه وآله: "أدبني ربي
فأحسن تأديبي" وهذا يعني أن الإنسان يحمل مسؤولية اجتماعية بالإضافة إلى المسؤولية
الأسرية تجعله ناضجاً وواعياً لنفسه ولمحيطه فيسير بخطى ثابتة وواثقة لا تهزه
العواصف ولا تحركه الرياح مهما بلغت.