في هذا العالم تعيش الشعوب المختلفة، وتتصارع عليه القوى والأنظمة المتناحرة، كل قوة تريد أن تستعلي وتصل إلى أعلى درجات السيطرة والقدرة، تحث شعبها على سلوك هذا الطريق طمعاً بالحياة الرغيدة والعيش الهنيء. وأكثر هذه الأنظمة تجد مصلحتها في استعباد الآخرين أو تسخيرهم وتسخير مقدراتهم وثرواتهم فتحيك حولهم المؤامرات وتشن عليهم الحروب.
وفي هذا الخضم من الصراعات والأطماع والأهواء تصنع الأحداث الكثيرة التي قد يكون ظاهرها معروفاً ولكن باطنها مجهولاً، وتتلون الوقائع بمختلف الألوان عندما يضاف إليها مكر الماكرين وكيد المتآمرين. وهكذا يعمى هذا الأمر على الكثيرين، فيجهلون دوافعها وأهدافها. وتكون نتيجة هذا الجهل في أحيان كثيرة الوقوع في شراك العدو ومكائده.
عندما يحدث أي أمر في العالم، نؤمن بتأثيره على كافة العلاقات والمجريات وخاصة هذا العصر الذي ترابطت وتشابكت فيه المصالح والأسباب إلى أبعد الحدود، ولكن بما أننا لا نشعر بتأثيره المباشر في بعض الأحيان فيمكن أن نقع نتيجة جهلنا بحقيقته في الأثر غير المباشر الذي يسببه.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس" فالمطلع على أحداث الزمان، والمتابع لوقائع الأيام لا يمكن أن يقع في لجّة الالتباس فتعمى عليه الأمور وعندها يقع ضحية جهله في مهاوي الأخطار.
فقد تبين لنا أهمية الاطلاع على الأحداث الخارجية والوقائع السياسية لما لهذا الأمر من أثر كبير على حياة الشعوب والأمم.
ونحن نعلم أيضاً أن الدين الحنيف والصراط المستقيم قد أمرنا بسلوك طريق الوعي والنباهة، وحذرنا من كيد الأعداء،
﴿هم العدو فاحذرهم﴾.
وفَضّل العلماء وشَرّف العقل وحَثّ على التفكر في المصير والمآل.
ويمكننا أن نسمي تلك العملية الفكرية التي نقوم بها لأجل الوصول إلى معرفة الواقع السياسي أو حقيقة الحدث بعملية التحليل السياسي.
فالتحليل السياسي هو نوع من السير العقلي يعتمد أساليب وأصولاً مختلفة تكون مادته الأحداث والوقائع السياسية بمختلف مفاصلها الأمنية والعسكرية والاقتصادية والديمغرافية والثقافية.
* مقدمات التحليل السياسي
قبل الدخول في وادي التحليل السياسي لا بد من مراعاة سلسلة من المسائل التي هي بمنزلة الشروط اللازمة، وهي تعين الإنسان ليس فقط في التحلي السياسي بل في كافة العمليات التحليلية والفكرية، وهي:
1- حضور الذهن: ونقصد به التوجه العقلي الكافي للانتقال من فكرة إلى فكرة بصورة منطقية. فأغلب الذين يظنون أنفسهم من أصحاب التحليل السياسي يقعون في هذه المشكلة عندما لا يقدرون على الربط ما بين الأفكار ويكون تحليلهم عبارة عن جمع معلومات وإضافتها إلى بعضها البعض.
2- عدم الانخداع بالظاهر: ففي عالم السياسة يُستعمل الخداع وتُستخدم التصريحات المزيفة والإيحاءات المضلّة، ولهذا لا ينبغي أن نأخذ بالظاهر مهما كان لصالحنا. ويكفي أن نذكر هنا حدثاً تاريخياً مهماً يدل على أهمية هذا الأمر. في عام 1949 وبعيد انتصار الثورة الصينية مباشرة، زار زعيمها الشيوعي ماوتسي تونغ موسكو على رأس وفد رفيع المستوى وطلب اللقاء بستالين الذي كان آنذاك زعيم الاتحاد السوفياتي.
في ذلك اللقاء التاريخي الذي كانت ترتجف منه قلوب الغربيين أعلن ماوتسي تونغ عن استعداد بلاده للاتحاد مع الاتحاد السوفياتي لتشكيل دولة شيوعية كبرى ذات وحدة تنظيمية وإدارية وسياسية مما يعني تلاشي الحكومتين المركزيتين في حكومة واحدة يشكل عمادها مجلس شيوعي أعلى. لقد كان التصفيق حاداً جداً من قبل رؤساء الوفود المتقابلة وعم السرور أوجه الحاضرين إلا ستالين الذي فاجأ الجميع برفضه لهذا الاقتراح فور إعلانه بحيث لم يصدق أحد ما حدث فقد ضاعت الفرصة التاريخية التي كان يحلم بها الشيوعيون. ولكن ستالين كان يدرك شيئاً آخر وراء تلك المبادئ (التي ظهر بطلانها في الأيام الأخيرة لكل العالمين) وعرف أن ما يطمع إليه ماوتسي تونغ إنما هو السيطرة على الاتحاد السوفياتي من خلال التفوق العددي الهائل للشعب الصيني الذي سيفرض سلطته على المجلس الأعلى بأكثرية ساحقة، فيكون ستالين بقبوله قد قدم بلاده لقمة سائغة للطامع.
3- عدم الاستعجال في التفسير والتحليل: قد تبرز بعض المعطيات السياسية التي تحمل الإنسان على تبني رأي يخالف الواقع. ويحدث هذا غالباً عندما يستعجل المحلل في تفسيره وتحليله للقضايا. لذلك لا بد من التأني في جمع كافة المعلومات الضرورية من أكثر من مصدر وجهة ليتوفر له نوع من الإحاطة بالحدث. ومما يذكر في هذا المجال أن شاه إيران كان قد سارع إلى تأييد الانقلاب الذي قام به "تَرَكي" في أفغانستان عام 1979، وذلك لأنه كان يعلم أن المدعو "تَرَكي" كان يعمل في سفارة أمريكا في أفغانستان وبالتالي فلا بد أن يكون الانقلاب أمريكياً.
وكانت الصفعة قوية عندما تبين في اليوم التالي أن ذلك الانقلاب لم يكن إلا تدبيراً روسياً أعد بدقة.
4- الإقلال من الكلام والإكثار من الإصغاء والمطالعة: وخاصة في المرحلة الأولى.
5- امتلاك قدرة التجزئة والتحليل: وهي فرع الشرط الأول، فالتحليل السياسي يحتاج إلى قدرة التجزئة والتفكيك ما بين المسائل المختلفة حتى يمكن معالجتها بصورة جيدة. فإذا اجتمعت المعطيات الكثيرة ولم يكن المحلل قادراً على التفكيك بينها بصورة منطقية فلن يقدر على جمعها في النهاية بطريقة تمكنه من الوصول إلى النتيجة المطلوبة.
6- عدم استصغار العدو: أو الإقلال من أهميته والغفلة عنه قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وإن أخا الحربِ الأرقُ، ومن نام لم يُنم عنه".
7- استطلاع المسائل التي قد تبدو في الظاهر غير مهمة.
وسوف نتحدث في الحلقة المقبلة عن الشروط الأساسية للتحليل السياسي.
(يتبع)
الخلاصة:
1- التحليل السياسي مقدمة لمعرفة الواقع ورصد والمؤامرات.
2- للتحليل السياسي مقدمات أساسية هي:
أ- حضور الذهن.
ب- عدم الانخداع بالظاهر.
ج- عدم الاستعجال.
د- الإقلال من الكلام والإكثار من المطالعة.
هـ امتلاك قدرة التجزئة والتحليل.
و- عدم استصغار العدو.
ز- استطلاع المسائل التي قد تبدو غير مهمة.