الشيخ حسن الهادي
* فلسفة العيد في الإسلام:
العيد هو اليوم الذي يعود فيه العبد إلى مولاه، ويأمن فيه من الوعيد بعد موسم عامرٍ
من العبادة، والطاعة والامتثال للَّه تعالى، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام:
"إنما
هو عيد لمن قبل اللَّه صيامه وشكر قيامه وكل يوم لا يُعصى اللَّه فيه فهو يوم عيد..."(1).
ويجد المتتبِّع للنصوص الواردة حول العيد، والأعمال والصلوات الخاصة بليلة ويوم
العيد، أن العيد إنما هو بعد الفراغ من العبادة المقرِّبة كعيدي الفطر والأضحى، حيث
أن كل واحد منهما يأتي بعد الفراغ عن الإتيان بما هو من الأركان الأساسية في الدين
الإسلامي، كالحج والصوم وغيرها من العبادات، فالحج عبادة خاصة مؤلَّفة من الأفعال
والتروك. فإذا قام الناس بما أُمروا به يصير ذلك عيداً لهم. وهكذا صيام شهر رمضان
فهو عبادة مخصوصة نسبها اللَّه تعالى إليه "الصوم لي وأنا أجزي به" وهي كفّ النفس
عن المفطرات للَّه تعالى، واللَّه تعالى يُقبل بفيوضاته ورحمته الواسعة على عباده
الصائمين جميعاً لتتحوّل كل حركات الصائم وسكناته حتى نفسه إلى عبادة وتسبيح،
وتتجلَّى مصاديق الضيافة الإلهية بأبهى مظاهرها، حيث أبواب الجنان مفتَّحة، وأبواب
النيران مغلقة وكل شيء في الوجود يسبِّح بحمده ويقدِّس له.
فإذا أقبل الناس على
خالقهم، وامتثلوا ما أُمروا به من عبادة الصوم، يكون فراغهم منه وصالاً لما وعدوا
به فيكون عيداً لهم، كما كان الأضحى بعد الحج عيداً لهم. وللعيد فضلاً عن خصوصيته
العبادية العالية، المزيد من الخصوصيات والجوانب التربوية والاجتماعية التي تبرز في
مجموعة الأعمال والمستحبات والآداب الواردة في يوم العيد وليلته، والتي يؤديها
ويمارسها الناس جماعات وأفراداً. وفيما يلي أهم المظاهر الاجتماعية هذه:
* زكاة الفطرة:
لقد دأب الإسلام على تربية الإنسان المسلم بحيث لا يقتصر في أفراحه على نفسه، بل
يحاول ساعياً بأن يُشرِك الآخرين، ففي عيد الأضحى تستحب الأضحية لغير الحاج، وعلى
الحاج أن يقدِّم الهدي، وأن يأكل منها شيئاً، ويتصدَّق بشيء آخر، ويهدي القسم
الثالث، وفي عيد الفطر، أوجبت الشريعة زكاة الفطرة، كمساهمة من كل مسلم أدرك شهر
رمضان صغيراً كان أو كبيراً، صائماً أو مفطراً، ضيفاً أو مضيفاً، إلى جانب أخيه
المسلم الذي يعيش حالة الفقر، وبهذا تدخل البهجة إلى قلوب المحتاجين والمعوزين قبل
بيوتهم، وتلوح ملامح تلك الفرحة عندهم حمداً وشكراً للَّه سبحانه وتعالى، ويعيش
أفراد المجتمع كافة فرحة العيد، ويتمتع الأطفال بلباسهم وطعامهم ولعبهم دون أن
يشعروا بحسرة أو ألم الفقر والعوز.
ولهذا فإن الإسلام انطلاقاً من اعتماده على مبدأ
تحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن والتكافل الاجتماعيين، فقد أولى الزكاة اهتماماً
خاصاً، فقد ورد "إنه يتخوّف الفوت على من لم تدفع عنه" و"إنها من تمام الصوم
كما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله من تمام الصلاة". جاء في الحديث عن أبي
عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: "ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي
مسلم فقيراً محتاجاً.."(2). وعن الإمام الرضا عليه السلام: "إن علة الزكاة
من أجل قوت الفقراء وتحصين أموال الأغنياء لأن اللَّه عزّ وجلّ كلّف أهل الصحة
القيام بشأن أهل الزمانة والبلوى"(3). ولا بد من الإشارة هنا إلى الأثر النفسي
لاعطاء الزكاة على كل من الغني والفقير، فاعطاء الزكاة من قبل صاحب المال يرِّبي
فيه عنصر التسليم المطلق للَّه تعالى في كل أوامره وخصوصاً الأوامر التي تتعلق
بالجانب الاقتصادي حيث درج الإنسان على أن يحب المال حباً جماً، والزكاة تطهير
للمال من حق الغير، فالإسلام قد جعل الزكاة حقاً للَّه يُعطى للفقراء فهي حق لهم
ولا بد من تطهير المال من حقوقهم بدفعها إليهم. وأما بالنسبة للطرف الآخر أعني
الفقراء، فإنها تشكّل أثراً نفسياً وروحياً يعيد إليهم ولأُسرهم الحق المفقود الذي
يساعدهم لينطلقوا في الحياة بهدوء وراحة واستقرار.
* صلاة العيد:
العيد عبارة عن وقت اختاره اللَّه جلَّ جلاله من بين الأيام، لإطلاق الجوائز
والأنعام على العباد ليجتمعوا على أخذ الخلع والعطايا..، والخائب في مثل هذا اليوم
من غفل عن معنى العيد، واشتغل فيه بالتزيُّن للناس، وتصفيق اليد(4).
فلا بد للمسلم في يوم عيد الفطر من أن يدرك عظمة وخصوصية هذا اليوم وأنه يوم
استكمال الطاعة والعبادة، ممزوجاً بفرحة العمل الصالح، والعبادة، التي عاش أيامها
ولياليها وكل لحظاتها في شهر رمضان المبارك في ضيافة اللَّه تعالى حيث العطاء
الجزيل، والكرم المطلق.. ولا شك بأن هذه الفرحة والبهجة هي من أعظم ما يردِ على
خاطر الإنسان من السرور والفرح.. حيث تبرز حينما يخرج للصلاة صبيحة يوم العيد
مكبِّراً كما كان يفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حيث كان يخرج في العيدين
رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، والناس يكبِّرون معه في المساجد والأماكن العامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "زيّنوا أعيادكم بالتكبير" فما أجمل أن
يخرج الناس في صبيحة يوم العيد، في تجمّع خاشع إلى بيوت اللَّه، والجميع يعيش فرحة
العيد، وتتلهف القلوب إلى بعضها، ويتعانق الأحبة يرددون عبارات التكبير والتمجيد
والتحميد، والدعاء بالخير وتقبُّل الأعمال من الآخرين. ليقفوا معاً في صفوف
متراصَّة بين يدي اللَّه تعالى، لتأدية صلاة العيد وقِطاف ثمرة الصوم بقبول الأعمال
والطاعات، في أجواء من الخضوع أمام كبرياء الله وعظمته، داعين اللَّه تعالى أن
يعمِّق من صلاتهم وارتباطهم بمحمد صلى الله عليه وآله وآله الطاهرين، عبر دعاء رائع
يكرِّره المصلّون عدة مرات في صلاة العيد لتحقيق هدف نفيس كانت عبادة الصوم تمهيداً
لترسيخه في الشخصية الإيمانية للإنسان، يتمثّل بمبدأ التولي والتبرِّي، فقد ورد في
دعاء صلاة العيد "اللهم أني أسألك.. أن تدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآله،
وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمداً وآله". وبهذا يكتمل الصوم، وينجلي معنى
العيد "إنما هو عيد لمن قبل اللَّه صيامه".
* أجواء التزاور والمودة:
ويبرز في يوم العيد أنماط من السلوك الاجتماعي، الذي يفرضه حضور المناسبة وأصالتها
الدينية، فنجد بأن جميع المسلمين بلا استثناء، يقومون بمجموعة من الأعمال والنشاطات
الاجتماعية، والتي تحوَّل قسم كبير منها إلى واجبات بالمعنى العرفي، وإن كانت
الشريعة المقدَّسة قد حثَّت على بعضها وأوجبت البعض الآخر، وأهم هذه الآداب
والواجبات في يوم العيد هو: تبادل التهاني والمصافحة مع الأهل والآباء والأمهات
والصغار والكبار وباقي الأرحام والجيران والأصدقاء مما يضفي أجواءً عالية من الود
والإلفة والسرور.
الزيارات المتبادلة وتبادل الهدايا بين أفراد المجتمع، وهذا يساهم
في تقوية اللحمة الاجتماعية وإعادة التواصل الذي قطعته ظروف الحياة وكثرة الأعمال،
فنجد في الكثير من الأحيان أن زيارة أو هدية بسيطة أو حتى كلمة كفيلة أن تفتح
قلوباً وأرواحاً وتعيد إليها أواصر الحياة الاجتماعية الضعيفة أو المعدومة. نزول
الأطفال إلى الساحات والأماكن العامة، حيث التباهي بالثياب الجميلة والجديدة،
والتسابق إلى اختراع ألوان الألعاب ومظاهر الفرح والبهجة والسرور الذي يغمر كل شيء
في حركاتهم وسكناتهم. وليس هذا من باب اللهو أو اللغو والاسراف، بقدر ما هو جزء
طبيعي من مجموعة الحاجات التي يحتاجها الطفل، وتساهم في نموِّ شخصيته وتوازنها
بالتواصل مع بقية أفراد المجتمع. ومن الواجب على الأهل أن يدركوا أنه من الحق
الطبيعي للأولاد أن يعيشوا فرحة العيد بكل بهجتها ومظاهرها، مما يعني ضرورة توفير
مستلزماتها التي تسمح لأطفالهم التفاعل مع هذه المناسبة وغيرها.
* زيارة القبور:
جاء في الحديث عن الإمام علي عليه السلام قال: "زوروا موتاكم فإنهم يفرحون
بزيارتكم، وليطلب الرجل حاجته عند قبر أبيه وأمه بعدما يدعو لهما"(5). لا يكتفي
الناس بالزيارات الاجتماعية العادية، وتبادل التهاني والهدايا، بل يجد ظاهرة
اجتماعية راقية في المجتمعات الإسلامية تتمثّل بتواصل الناس مع أرحامهم الأموات ولو
من سنين طوال. فيقوم الأهل والأحبة قُبيل يوم العيد بغسل وتنظيف القبور وتهيئتها
لاستقبال العيد وضيوفه، لتتحوّل مع الخيوط الأولى لشروق شمس يوم العيد إلى مظهر ذي
حالة عرفانية خاصة موشَّح بألوان الورود المهداة إلى الأحبة والمتناثرة فوق الأضرحة
وعلى زواياها، يلفه حزن على طول الفراق وتهنئة بالعيد السعيد، ولا يغيب عن هذه
الأجواء دموع لا بد أن تنساب حتى في يوم العيد، ولعلها في الحقيقة ليست دموعاً بقدر
ما هي عبارات للتهنئة والتبريك بالعيد، إلا أنها هذه المرة كانت ذا أثر بالغ وإن
أتت صامتة، مما يدخل الفرح على الأموات، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه
السلام. في الرواية أن داود الرقي سأل الإمام الصادق عليه السلام: يقوم الرجل على
قبر أبيه وقريبه وغير قريبه هل ينفعه ذلك قال: "نعم إن ذلك يدخل عليه كما يدخل
على أحدكم الهدية يفرح بها"(6).
في الختام لا بد من الالتفات أن للعيد مفاهيم
ودلالات عميقة في الثقافة الإسلامية، فهو من جهة استكمال للعبادة التي تسبقه، وهو
من المظاهر والعناصر الاجتماعية الخاصة عند المسلمين، والتي تساهم في مدِّ أواصر
المحبة والمودة بين القلوب والأرواح فضلاً عن الأجساد.
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد - 20 - 73.
(2) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6، باب 1، من أبواب الزكاة.
(3) المصدر نفسه، ج3.
(4) الميرزا الملكي التبريزي، المراقبات أعمال السنة.
(5) بحار الأنوار، ج74.
(6) بحار الأنوار، ج102.