آية اللَّه الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه اللَّه)
ورد في مناجاة الذاكرين للإمام السجّاد عليه السلام: "وَأسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ رَاحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ قُرْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ شُغُلٍ بِغَيْرِ طَاعَتِكَ". تحدّثنا في العدد السابق عن حقيقة اللذّة أما في هذا العدد سنتحدّث عن احتياجات الإنسان ولذّة ذكر الله.
*لكلّ حاسّة لذّة مناسبة
الإنسان في مراحل نموّه، تحصل له احتياجات جديدة، حيث يشعر باللذّة في تأمينها. بعض هذه الاحتياجات حسيّ وبعضها الآخر ماديّ وهي معروفة عندنا بالكامل.
عندما يرفع الإنسان هذه الاحتياجات بواسطة أعضائه وقواه الحسيّة، يشعر بلذة مناسبة لها. مثال ذلك، عندما نلتذّ بالاستماع إلى عزْفٍ عذبٍ فهذا يعني أنّ حاسّة السمع عندنا قد أدركت ذاك الصوت وهو مناسب وملائم لها، فالأذن هي التي تدرك الأمواج الصوتيّة؛ إذاً هناك ملاءمة ومناسبة بينهما. وعلى هذا، فإذا فقد الإنسان الحسّ المناسب لكلّ لذّة، يكون عاجزاً عن إدراكها، وإذا فقد الشخص العين فهو لا يلتذّ بالمناظر الجميلة(1).
*بعض الاحتياجات مؤقّت
من جملة احتياجات الإنسان الأخرى ولذائذه التي تحصل بعد إشباع الاحتياجات، الاحتياجات الروحيّة والنفسيّة. وقد عملت مدارس علم النفس، على اختلافها، على دراسة هذه الاحتياجات. بعض استعدادات الإنسان أمثال الغذاء، يظهر منذ الولادة وبعضها الآخر يظهر بعد أن يقطع الإنسان مراحل في النمو. وبعض الاحتياجات مؤقّت يظهر في مراحل خاصة من حياة الإنسان. ولكن هناك بعض الاحتياجات الدائمة التي تستمرّ حتّى نهاية العمر، أمثال الغرائز المحرّكة التي تبقى فعّالة حتّى نهاية العمر، مثلاً: الحاجة إلى الغذاء الذي يبقى حتّى نهاية عمر الإنسان.
أشرنا [في العدد السابق] إلى أنّ اللعب بوسائل وأدوات اللعب يتعلّق بمرحلة الطفولة، حيث يبقى الطفل متعلّقاً بها إلى سنّ العاشرة، ثم يتّجه بعدها نحو ألعاب أخرى. الشباب مثلاً يظهرون ميلاً نحو لعب الكرة، لا بل يعتبرون ألعاب الأطفال أدنى من شأنهم، فإذا أظهر الشخص علاقة باللّعب بوسائل الأطفال بعد مرحلة الطفولة، فإنّ عمله هذا يكون خلاف الطبيعة وهو ناشئ من النقص النفسيّ والتربويّ؛ لأنّ عقل الإنسان إذا قطع مراحل النموّ بشكل طبيعيّ، فهو لا يقترب من الأعمال التي لا تتناسب معه. وإذا حصل واقترب منها وكان تعاطيه معها سلبيّاً، فإنه سيخجل من فعله ويطلب العذر من الذين يشاهدونه.
*تناسُب اللذّة وشأن الإنسان
طبعاً، تشخيص اللذائذ والاحتياجات الفصليّة والمؤقّتة وتعيين الإطار الزمنيّ لها يقع على عاتق علماء النفس. ولكن، من الواضح أنّ الإنسان يعتبر بعض اللذائذ أدنى من شأنه بعد رقيّ موقعه وشأنه ونموّه العقليّ. كما إنّ صاحب الشأن والموقع الاجتماعيّ الرفيع لا يرى أنّ من شأنه الاشتغال بالأعمال المتدنّية المناسبة للطبقات الاجتماعية المتدنّية. طبعاً، يعتبر الإسلام كلّ عمل محترماً وذا قيمة، ولكن من حيث التقييم الاجتماعي، فإنّ عامل النظافة ليس في مستوى المحافظ وكافّة مسؤولي المدينة.
*الواصلون وطلب اللذّة
كما إن الشخص ذا الشأن والاعتبار الاجتماعيّ المتعالي، غير جاهز للعمل في إطار أعمال الأفراد المتدنّية، ويخجل من أن يقضي وقته في هكذا أعمال. كذلك فإنّ الذي وصل إلى مراتب المعرفة الإلهيّة المتعالية والذي تذوّق طعم العلاقة بالله، لا يرى أنّ من شأنه القيام بعمل لأجل لذّته المادية. إنّ هذا الشخص يرى نفسه يقوم بما يؤدي إلى طاعة الله والقيام بوظيفته في حدّ الضرورة، ولا يرى أنّ من شأنه التلذّذ بالأمور العادية في الحياة. وكما إنّ الطبيب أو أيّ إنسان بارز ليس حاضراً للّعب بأدوات ووسائل الأطفال حيث يخجل من اللعب بها، كذلك الأشخاص الذين هم في مستوى عالٍ من المعرفة والإيمان، يخجلون من الإتيان بأعمال نعتبرها ذات قيمة لنا؛ لأنهم يعتبرون الكثير ممّا نطلب وما نريد أموراً صبيانيّة وقبيحة.
*إدراك لذّة ذكر الله وترك اللذائذ الماديّة
إنّ الشخص العارف بالله والذي يمكنه السكون إلى الله، ليس بإمكانه التعلّق بالمنزل والسيارة وكافة وسائل الحياة؛ لأنّه يعتبر ذلك أدنى من شأنه. كيف يمكن لمن يعتبر قلبه محلّاً ومحبّته أن يجعله محلّاً للأحجار والحديد والأمور الجامدة؟
يجب أن ننظر إلى أنفسنا وبأيّ شيء قد تعلّقنا وأن نعلم أنّ قيمتنا هي في حدود الشيء الذي تعلّقنا به. إنّ الذي يصل إلى المعرفة الإلهيّة والذي يدرك الحقائق والمطّلع على شأنه ومقامه الإلهيّ والإنسانيّ والذي يعلم أنّ الأعمال الدنيوية المتدنّية لا تتناسب مع الشأن والقيمة اللذين أعطاهما الله له والذي يأبى لنفسه وفكره الاشتغال بالأمور الدنيوية العبثيّة، فهو يخجل لأنّه قضى عمره في أمور لا تتناسب مع مقامه الإنسانيّ وهو يتأسّف للخسارة التي لحقت به.
*سبب استغفار الأولياء
إنّ الذي تذوّق طعم ذكر الله ولذّة الكون مع الله، يدرك أنّ التعلق بالحجر والحديد والثور والخروف أمور تدعو إلى الخجل حيث يجب الاستغفار من ذلك. وعلى هذا الأساس، فإنّ استغفار أولياء الله ليس من المعصية؛ لأنّ ساحتهم منزّهة عن المعصية، بل استغفارهم هو من كل ما يمنع الإنسان من اللذّة بذكر الله.
إنّ الذي لم يصل إلى مرحلة إدراك لذة ذكر الله، فإذا أُجْبر على تكرار ذكر "لا إله إلّا الله" ألف مرة، فهو سيشعر بالتعب؛ لأنه لا يلتذّ بهذه الأذكار، لذلك نراه يتقلّب يميناً وشمالاً ويتحرّك إلى هنا وهناك ليتمكّن من الانتهاء. وإذا أراد ختم جزء من القرآن، نراه يَعُدّ الصفحات الباقية مرّات عدّة ليتمكّن في النهاية من الوصول إلى نهايته. وهو عندما يقوم إلى الصلاة يكون في غاية الكسل والشعور بالأثقال؛ لأنه لا يلتذ بالصلاة. من هنا، يقول الله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة: 45).
* ارتواء القلب من زمزم معرفة الله
في المقابل، فإنّ الذي ارتوى قلبه من زمزم معرفة الله الزلال، والذي استقرّت في داخله لذّة ذكر الله، التي هي أعلى من كلّ لذّة، والتي لا يمكن مقارنة أي لذّة أخرى بها، هذا الشخص عندما يشتغل بذكر الله، فهو يلتذّ بذلك إلى درجة أنّه يغفل عن أيّ شيء آخر.
ينقل المرحوم الحاج الشيخ غلام رضا اليزدي رواية مضمونها: في الجنّة تشتكي بعض الحوريات إلى الله، بأنّك يا الله قد خلقتنا للمؤمن الفلانيّ، لكنّه غير ملتفت لنا على الإطلاق. والسبب في ذلك أنّ أهل الجنة قد أسكرتهم التجلّيات الإلهيّة فالتذّوا بها إلى درجة أنّهم غفلوا عن الحوريّات، ولأنه قد وصل إلى لذّة أعلى وهي لذّة "الأنس بالله"؛ وهي لذَّة لا يمكن مقارنتها بكافة حوريات الجنة.
إنّ الذي أبعد روحه عن التعلّقات المادية، قد وصل إلى مستوى عالٍ من اللطافة والصفاء والتعالي بحيث يعتبر كلّ لذّة غير ذكر الله نوعاً من الخسران الذي يجب الاستغفار منه. إنّ هكذا شخص هو الذي يتمكّن من إدراك كلام الإمام السجّاد عليه السلام: "وَأسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ".
* التوحيد في حبّ الله
يمكن الاستفادة من هذه الجملة بشكل آخر وهي: عندما تحصل علاقة المحبّة والمودّة بين شخصين، فإنّ الحبّ والعشق يوجبان أنْ يتوجّه العاشق بشكل كامل إلى المحبوب؛ وأمّا إذا توجّه والتفت واهتمّ بشخص آخر فقد جفا محبوبه ومعشوقه. إنّ الذي يحبّ غير الله تعالى، وبالتالي الذي يلتذّ بأعمال أخرى غير ذكر الله، فقد خان الله ولم يكن موحّداً في حبّه لله. يجب على الموحّد أن يخصّص قلبه لمحبوبه الحقيقي وأن لا يلتفت إلى غير الله؛ إلّا في بعض الحالات التي أمر الله فيها بالتوجّه إلى غير الله. نعم، هنا يكون الإنسان في إطار القيام بالواجب والوظيفة الإلهيّة، فيتعلّق بالأمور الدنيويّة ويلتذّ بها ولكنّه في الوقت عينه يكون غير غافل عن الله. وأمّا اللذّة التي يحصل عليها فلا تنافي لذّة ذكر الله. إذاً، عندما يعشق الشخص الله، يجب أن يكون بكامل وجوده وقفاً على المعشوق ويجب عليه عدم التوجّه إلى غير الله. وأمّا إذا سعى نحو لذّة غير ذكر الله يجب عليه الاستغفار من ذلك.
1- نحو صناعة الذات، محمد تقي مصباح اليزدي، ص86-87.