* سورة التوحيد
تحدث الإمام الخامنئي دام ظله عن الصلاة بأنها الرابطة الوثيقة بين الإنسان والرب،
بين المخلوق والخالق، وآثارها على نفس الإنسان المصلّي، ومن اللازم الدخول إلى
أفعال الصلاة لفهم معانيها وإدراك حقيقتها، فكان لا بد من رحلة في أعماق الصلاة كما
تحدّث عنها الإمام الخامنئي دام ظله حيث عرضنا في الحلقة الماضية سورة الفاتحة
ونستكمل في هذه الحلقة الحديث عن سورة التوحيد . بعد إتمام هذه المناجاة "سورة
الفاتحة" المربية المليئة بالمحتوى، على المصلي أن يتلو سورة كاملة من القرآن. هذه
التلاوة جزء من القرآن ينتخبه المصلي بحريته وإرادته، يفتح بوجهه فصلاً آخر من
المعارف الإلهية الإسلامية. فريضة تلاوة القرآن في الصلاة كما قال الإمام علي بن
موسى الرضا عليه السلام في حديث الفضل بن شاذان: "أُمِر الناس بالقراءة في الصلاة
لئلا يكون القرآن مهجوراً مضيَّعاً وليكون محفوظاً مدروساً فلا يضمحل ولا يُجهَل". نكتفي هنا بالإشارة إلى سورة التوحيد المتعارف تلاوتها في الصلوات. بسم
الله
الرحمن الرحيم: قل أيّها الرسول قل واعتقد وبلّغ الآخرين بهذه الحقيقة.
*
﴿هُوَ الله أَحَدٌ
﴾
فليس له شريك ولا مثيل ولا ند كالذي تعرفه عقائد الأديان المنحرفة. ليست ساحة
الخليقة مسرحاً لتنازل الآلهة وحربهم، بل إنّ جميع سنن العالم وقوانينه صادرة عن
إرادة واحدة وقدرة واحدة. ولذا يسود عالم الخليقة النظام والانسجام فجميع القوانين
والتحولات والتحركات الطبيعية في العالم تتحرك باتجاه واحد. الإنسان وحده الذي
متّعه الله بالإرادة والاختيار والقدرة على التصميم يمكنه أن يتمرد على هذا
النظام ويعزف لحناً شاذاً مخالفاً للعزف الجماعي، كما يمكنه أيضاً أن يصنع لنفسه
حياة تنسجم مع قوانين الوجود.
*
﴿الله الصَّمَدُ
﴾
ليس الله بحاجة إلى شيء أو أحد، فأنا أتواضع أمامه وأعظمه وأحمده ليس كباقي
الأرباب المحتاجة في إيجادها واستمرارها في الحياة، وقدرتها إلى رعاية غيرها. فإن
إلهاً كهذا لا يستحق التكريم والتعظيم من قبل الإنسان، إذ أنه موجود كالإنسان أو
أدنى منه، الإنسان هذا الموجود العظيم والعميق لا ينبغي أن يعظم سوى قدرة ليست
محتاجة أدنى احتياج إلى أيّ وجود وأيّ عنصر آخر، لأنّ وجودها وقدرتها وخلودها نابع
من ذاتها.
*﴿
لَمْ يَلِدْ
﴾
إنه ليس كما ذكرته الأديان الخرافية والمنحرفة والعقائد المشركة، ليس إله المسيحيين
والمشركين الذين تصوروا له ولداً أو أولاداً، إنه خالق كل شيء وكل شخص، لا أنه
أبوهم بل كلّ سكان السموات والأرض هم عباده لا أولاده. إنّ نسبة الربوبية والعبودية
بين الله والإنسان هي التي تمنع عباد
الله الواقعيين من عبادة أي شيء أو أحد
غير الله، إذ أنّ عبادة إلهين غير ممكنة. إنّ الذين جعلوا
الله أباً عطوفاً
للخلائق، وأن البشر هم أولاده، لم تتضح لهم حقيقة عبودية الإنسان للَّه، وأنها مقام
تكريم لهذا الإنسان. وهم في الحقيقة قد فتحوا طريقاً لعبادة غير
الله، وأصبحوا
عملياً عبيداً للكثير من أرباب الدنيا ممن نزعت منهم المروءة، وصاروا آلة بيد
النخاسين من باعة الرقيق.
*
﴿وَلَمْ يُولَدْ
﴾
فهو ليس حادثاً بمعنى أنه لم يكن في وقت، ثمّ جاء إلى ساحة الوجود. وليس هو وليد
أحد أو فكرة أو اعتقاد. وليس وليد نظام أو طبقة أو شكل من أشكال حياة البشر. إنه
أكرم الحقائق وأسماها، إنه حقيقة أزلية، كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد.
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
﴾
ليس له مثيل ولا يمكن أن يشبهه شيء، لا يمكن تقسيم مناطق نفوذه ومناطق حكمه وهي
عالم الكون بأجمعه بينه وبين شخص آخر، ولا يمكن أن يكون جزء من حياة الإنسان له
والآخر لغيره، من الأرباب الأحياء وغير الأحياء، ومن مدعي القدرة والألوهية. هذه
السورة من جهة تعرّف المسلمين وجميع العالمين على الإله الذي يستحق العبادة
والتمجيد بنظر الإسلام. وأنّ الإله الذي لا يكون هو الأوحد، بل له مئات وآلاف
المشاكلين في العالم، ليس جديراً بالربوبية والألوهية. إنّ القدرة المحتاجة في
استمرارها إلى موجود آخر لا يمكن ولا ينبغي أن تفرض على البشر. إنّ الذي يعظِّم
وينحني للأرباب الواهية، المحتاجة والمحدثة والزائلة يسحق كرامته الإنسانية،
ويُسقِط نفسه والإنسانية، هذه هي الجهة الإيجابية في سورة التوحيد التي تستعرض
مميزات المعبود وربّ الإنسان، وتثبت بطلان الأرباب على طول التاريخ. ومن جهة أخرى،
تحذر عباد الله والمسلمين من تدنيس أنفسهم بالنظر العقلي الذي يولّد الشبهات
والوساوس بشأن ذات
الله وصفاته، وأن يذكروا
الله ويدعوه بكلام بسيط. فبدل أن
يستغرق الإنسان في التفلسف والذهنيات، عليه أن يفكر في الالتزامات النابعة من عقيدة
التوحيد.
وكما جاء في حديث الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "إن
الله عزّ وجلّ علم أنّه
يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل
الله تعالى:
﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾
والآيات من سورة الحديد إلى قوله:
﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾،
فمن رام وراء ذلك فقد هلك". كأنّما تقول هذه السورة
﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ
﴾ للمصلي: إنّ
الله قدرة فريدة وعالية، وهو مستغنٍ ذاتاً وغير
محتاج
﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾وليس
له مشابه ومشاكل و.. هذا وكفى، والعلم والرؤية والحكمة وباقي صفات
الله تعالى
التي يكون فهم المسلم لها واجباً، والتي تكون مؤثرة في حياته وعروج روحه، ذُكرت
أيضاً في آيات أخرى من القرآن، فلا تتعمق أكثر من هذا في ذات
الله وكيفية صفاته.
إنّك ستحصل على معرفة أكثر خلال العمل، لا تتصور أنك ستحصل على معرفة أكثر بالبحث
والتنقيب الذهني العميق، بل حاول تحصيل المعرفة عن طريق التحلي بالصفاء وروحانية
الباطن والروح، عن طريق العمل بمستلزمات التوحيد، وهكذا كان الأنبياء والصديقون،
إنهم عباد الله الحقيقيون، والموحِّدون والصادقون والعارفون.