التحرير
تنطلق عمليّة تصنيف الناس من خلال الصفات التي يمتلكونها
ويتحلّون بها. ومن هذه الصفات ما يرتبط بالسلوك والعمل ومنها ما يرتبط بالمعتقد
والمنهج. ولا شكّ في أنّ للمعتقد تأثيره على السلوك وعلى الخيارات التي يتبنّاها
الإنسان. وبمراجعة التأكيد الوارد في الآيات والروايات نجد أنّ بعض الصفات التي وصف
الله عزّ وجلّ بها عباده المؤمنين، كصفة التقوى، هو لما تملكه هذه الصفة من تأثير
على حياة الإنسان.
* الغيب من الإيمان
ومن هذه الصفات ما ورد في سورة البقرة من صفة الإيمان بالغيب. قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة: 3). والغيب خلاف الشهادة، وينطبق على ما لا يقع
عليه الحسّ، فالغيب والشهود متقابلان، عالَم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالَم
الغيب هو ما وراء الحسّ. وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات "غيباً" لخفائه عن
حواسّنا. قال تعالى:
﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (الحشر: 22). والإيمان بالغيب هو نقطة مشتركة بين
الأديان السماويّة، في مقابل الاتّجاهات الماديّة والملحدة.
والاعتقاد بالغيب يعني أنّ عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس.
ومن أهمّ تجلّيات الإيمان بالغيب: الإيمان بالآخرة، والحياة بعد الموت والنظر إلى
أنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكامليّة.
* مظاهر الإيمان بالغيب
1- المعجزة:
من الطرق التي يُثبت بها صاحب دعوى النبوّة أنّه نبيّ مرسل من عند الله عزَّ وجلَّ،
ما يسمّى بـ"المعجزة". والمعجزة هي عمل خارق للعادة، مقرون بالتحدّي لإثبات دعوى
النبوّة. انطلاقاً من هذا التعريف لا بدّ أن نلجأ إلى تفسير المعجزة من خلال النظام
الكونيّ. وعلى أساس ما يذكره العلّامة الطباطبائي قدس سره في تفسير الميزان:
"فالفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أنّ الأسباب الماديّة المشهودة
التي بين أيدينا إنّما تؤثّر أثرها مع روابط مخصوصة، وشرائط زمانيّة ومكانيّة خاصّة
تقضي بالتدريج في التأثير. مثلاً "العصا" وإنْ أمكن أن تصير "حيّة" تسعى، والجسد
البالي وإنْ أمكنَ أن يصير إنساناً حيّاً، لكنّ ذلك إنّما يتحقّق في العادة بعلِل
خاصّة، وشرائط زمانيّة ومكانيّة مخصوصة، تنتقل بها المادّة من حال إلى حال وتكتسي
صورة بعد صورة حتّى تستقرّ وتحلّ بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدقه
المشاهدة والتجربة لا مع أيّ شرط اتّفق أو من غير علّة أو بإرادة مريد كما هو
الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصّها القرآن.
وكما إنّ الحس والتجربة الساذجَين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة، كذلك
النظر العلميّ الطبيعيّ، لكونه معتمداً على السطح المشهود من نظام العلّة والمعلول
الطبيعيّين، أعني به السطح الذي تستقرّ عليه التجارب العلميّة اليوم، والفرضيات
المعلّلة للحوادث المادية"(1).
إذاً، يُثبت القرآن الكريم لكلّ حادث مادّيّ سبباً ماديّاً بإذن الله تعالى.
وبعبارة أخرى يُثبت لكلّ حادث ماديّ مستندٍ في وجوده إلى الله سبحانه و(الكلّ
مستند) مجرى ماديّاً، وطريقاً طبيعيّاً به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه.
ولكن أيضاً ثمّة مجموعة من العلل والأسباب غير الماديّة، تخفى على الناس عادة، وهي
لهذا تكون من الغيب، لأنّها ليست حسّية، ومهما تطوّر العلم الماديّ والتجريبيّ فلن
يتمكّن من استكشاف هذه الأسباب لأنّها وراء المادة. والمعجزة تستند في حدوثها إلى
هذه الأسباب التي يعطيها الله عزَّ وجلَّ لنبيّه.
2- الرزق والأسباب الغيبية:
تُفسّر ظاهرة الرزق أحياناً بحسب اتّساعها وضيقها على الإنسان، بأنّها من "الحظّ".
ولا يملك الناس تفسيراً واضحاً للحظّ، ويتجاهل هؤلاء أنّ وراء الرزق أسباباً غير
ماديّة، جعلها الله وحدّثنا عنها في القرآن الكريم، فقال تعالى:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْه ُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ
شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق: 2-3)، فإنّ صدر الآية يحكُم بالإطلاق من غير
تقييد، بأنّ كلّ من اتّقى الله وتوكّل عليه، فإنّ الله سبحانه حسبه فيه، وهو كائن
لا محالة، حتى إن كانت الأسباب العادية المحسوبة عندنا أسباباً تقضي بخلافه وتحكم
بعدمه.
3- الدعاء:
كيف يتوسّل الإنسان بكلمات في أوقاتٍ مخصوصة وبإقبال من القلب؟ وبماذا نفسّر
الأدعية الواردة في قضاء الحوائج الدنيويّة؟ بل كيف نفسّر ما يحدث مع الكثير من
الناس حيث يفتح لهم الدعاء أبواباً كانت موصدة، ويتنزّل عليهم الفيض الإلهيّ دون أن
يحدث أي تبدّل أو تغيير في الظروف الماديّة المحيطة؟ قال تعالى:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة: 186)، وقال تعالى:
﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (المؤمن: 60)، والآية التي توضح وتشرح هذه الظاهرة
هي قوله تعالى:
﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21). فهذه جملة مطلقة غير مقيّدة بشيء
أبداً، فلله سبحانه سبيل إلى كلّ حادث تعلّقت به مشيّته وإرادته وإنْ كانت السبل
العادية والطرق المألوفة مقطوعة مُنتفية هناك.
ويذكر العلّامة الطباطبائي قدس سره أنّ "هذا يحتمل وجهين: أحدهما، أن يتوسّل تعالى
إليه من غير سبب ماديّ وعلّة طبيعية، بل بمجرد الإرادة وحدها، وثانيهما أن يكون
هناك سبب طبيعيّ مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقه. إلّا
أنّ الجملة التالية من الآية المعلّلة لما قبلها أعني قوله تعالى:
﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْرًا﴾،
تدلّ على ثاني الوجهين"(2).
ففي الوجود عليّة وارتباط حقيقيّ بين كلّ موجود وما سبقه من الموجودات المنتظمة،
سواءٌ كانت ظاهرة كعلّة وجود الأم والأب لوجود الطفل، أو غير ظاهرة بحسب العادة،
كعلّة الدعاء والصدقة في دفع البلاء. (ولذلك نجد الفرضيّات العلميّة الموجودة قاصرة
عن تعليل جميع الحوادث الوجوديّة).
4- النفس وقواها:
إنّ هذه النفس الإنسانية تترقّى في ما أعطاها الله من قوى للتغلّب على الأسباب
الماديّة الظاهريّة، ويمكنها أن تفعل الكثير من خوارق العادة، ولو لم يكن ذلك من
باب التحدّي والإعجاز، وإلى هذا الباب يرجع معنى ما رُويَ: "أنّه ذُكر عند النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ بعض أصحاب عيسى عليه السلام كان يمشي على الماء، فقال
صلى الله عليه وآله وسلم: لو كان يقينه أشدّ من ذلك لمشى على الهواء" فالحديث -كما
ترى- يومئ إلى أنّ الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه وإمحاء الأسباب الكونيّة عن
الاستقلال في التأثير، فإلى أيّ مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهيّة
انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك(3).
ومن أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق عليه السلام: "ما ضعُف بدن عمّا قويت
عليه النيّة"(4)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر: "إنّما
الأعمال بالنيّات"(5). فقد تبيَّن أنّ الآثار الدينيّة للأعمال والعبادات،
وكذلك آثار الرياضات والمجاهدات إنّما تستقرّ الرابطة بينها وبين النفس الإنسانيّة
بشؤونها الباطنيّة، فالاشتغال بشيء منها اشتغال بأمر النفس.
5- المدبّرات أمراً:
الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءاً وعوداً على ما يعطيه القرآن الكريم،
بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق الأسباب الماديّة في العالم المشهود قبل حلول الموت
والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده.
أمّا في العود، أعني حال ظهور آيات الموت وقبض الروح، وإجراء السؤال، وثواب القبر،
وعذابه، وإماتة الكلّ بنفخ الصور، وإحيائهم بذلك، والحشر، وإعطاء الكتاب، ووضع
الموازين، والحساب، والسَوق إلى الجنة والنار فوساطتهم فيها غنيّة عن البيان،
والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، والأخبار المأثورة فيها عن
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام فوق حدّ الإحصاء.
وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن المداخلة فيه
وتسديد النبيّ، وتأييد المؤمنين، وتطهيرهم بالاستغفار.
وأمّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدلّ عليها ما في إطلاق قوله:
﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا*
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا* وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا* فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا*
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ (النازعات: 1-5).
وكذا قوله تعالى:
﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي
أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ (فاطر: 1) الظاهر بإطلاقه في أنّ الملائكة خلقوا وشأنهم أن
يتوسّطوا بينه تعالى وبين خلقه ويرسلوا لإنفاذ أمره الذي يستفاد من قوله تعالى في
صفتهم:
﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ* لَا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنبياء: 26-27)، وقوله:
﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (النحل: 50) وفي جعل الجناح لهم إشارة ذلك.
ولا ينافي هذا الذي ذكر من توسّطهم بينه تعالى وبين الحوادث، أعني كونهم أسباباً
تستند إليها الحوادث استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية، فإنّ السببيّة
طوليّة(6) لا عرضيّة؛ أي أنّ السبب القريب سبب للحادث، والسبب البعيد سببٌ للسبب.
كما لا ينافي توسّطهم واستناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى، وكونه هو
السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبية، فإنّ السببية طوليّة لا
عرضية ولا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعيّة
القريبة. وقد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدّق
استنادها إلى الملائكة.
(*) هذا المقال يعتمد بشكل أساس على ما جاء في بحث الغيب، في تفسير الميزان
للعلّامة الطباطبائي قدس سره.
1- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج1، ص75.
2- (م.ن)، ج1، ص77.
3- (م.ن)، ج6، ص187.
4- الوافي، الكاشاني، ج4، ص370.
5- الهداية، الشيخ الصدوق، ص62.
6- السببيّة الطوليّة: هي سلسلة من الأسباب والعلل، كلّ حلقة فيها تكون سبباً لما
بعدها، ونتيجة لما قبلها.