كانت مسألة الخوارق والمعجزات تشغل عقول الناس منذ فجر البشرية وحتى يومنا هذا. وما زالت تحير عقول العلماء والباحثين حتى لقد أنكرها العديد منهم لما وقف من عملهم على مجرد الرؤية الحسية والمسائل المادية.
ومن حين إلى حين نسمع عن صدور بعض الخوارق من أشخاص مختلفين في أرجاء هذا العالم. فيسارع بعضنا إلى إنكارها، والبعض إلى تصديقها دون فحص أو بحث.
فما هي حقيقة هذه الخوارق، وما هي علاقتها بالعرفان والسير والسلوك إلى الله؟
يقصد بالخوارق تلك الأفعال التي تصدر من بعض الأشخاص والتي تكون خارجة عن اعتياد الناس وقدراتهم الطبيعية، كالمشي على الماء، وطي الأرض، ومعرفة ما في الأذهان والضمائر، وقراءة الأفكار، وكشف الحوادث المستقبلية، والارتفاع في الهواء، وغيرها.. ومن الواضح أن هذه الأمور لا تحدث بشكل طبيعي، وهي خارجة عن دائرة القوانين الطبيعية المألوفة. ولكن ماذا لو حدثت بعض هذه الخوارق أمام عينيك أو تيقنت بحدوثها؟ هل يمكنك أن تنكرها؟
يسارع بعضنا في مثل هذه الحالات إلى نسبتها إلى السحر والشعوذة واستحضار الأرواح والجن. ولكن هل تعطي هذه النسبة يقيناً علمياً وهل تشبع بحثنا عن الحقيقة. وماذا نفعل إذا بدأت هذه الأمور تمسّ عمق حياتنا؟
فالسحر وإن كان حراماً، لكنه لا يخرج عن دائرة القوانين الكونية. وصحيح أن الكثير من القوانين الحاكمة على الكون لم تكتشف بعد، لكن العلم يقدم لنا في كل يوم كشفاً جديداً، وفي معظم الأحيان يستخدم السحرة القوانين الفيزيائية بطريقة خفية عبر استخدام مهاراتهم الجسمانية أو الأدوات المعدة سلفاً لهذا الغرض. فكل ما في عالم الوجود لا يخرج عن دائرة الأسباب والمسببات، أو ما يسمى بقانون العلية. ويمكن الحصول على تفسير واضح لكل الظواهر والحوادث، وإن طالت مدة البحث والدراسة.
فلا شك إذاً، إن الخوارق التي نسمع بها ونؤمن بوقوعها تنطلق من القوانين المودعة في هذا الكون.
ولكن قبل أن نشير إلى هذه القوانين لا بد أن نلتفت إلى أن عالم المادة والطبيعة ليس هو العالم الوحيد، وإن كان كبيراً واسعاً بحيث لا يدرك علماء الفلك نهايته، ولكنه أصغر العوالم بالقياس إلى العوالم العليا..
أما علماء الطبيعة من الفيزيائيين والكيميائيين وأمثالهم، فإنهم لا يكشفون إلا عن قوانين عالم الدنيا، ولا يمكنهم أن يكشفوا عن قوانين العوالم الأخرى. اللهم إلا إذا استخدموا وسائل أخرى مناسبة لتلك العوالم.
فإذا قيل بوجود الملائكة، هل يمكننا أن نراهم بهذه العين الحاسة؟
كلا، ولو حاولنا مئات المرات واستخدمنا أكثر المراصد تطوراً وجلنا في أرجاء الكواكب والمجرات. لأن الملائكة موجودات حقيقية ولكنها ليست مادية، وأعيننا هذه لا تدرك إلا المادي المحسوس.
إن معظم الخوارق التي يُتقنها بعض المرتاضين تعود بالدرجة الأساسية إلى استخدام قوانين ما فوق الطبيعة، وذلكَ عبر السيطرة على القوى النفسانية التي هي من شؤون عالم ما فوق الطبيعة. ولكن لصعوبة هذا النوع من الرياضات النفسية وتطلبه للصبر الشديد والفترة التمرينية الطويلة لا يقوم به إلا القلة النادرة من الناس. وعلى أثر هذا التفوق ينجذب الناس إليهم، وخصوصاً إذا كانوا أصحاب دعوة أو مدرسة فكرية أو مذهبية...
وإن شئنا أن نشرح هذه المسألة بطريقة أخرى لقلنا بأن حقيقة الإنسان هي أيضاً شاملة لما فوق الطبيعة الجسمانية. ولكن أكثر الناس لانشغالهم عنها وركونهم إلى الطبيعة والدنيا يصلون إلى المرحلة التي لا يرون فيها وجوداً لغير المادة، ولا حقيقة وراء الحس.
فإذا أدركوا هذه الحقيقة ورجعوا إلى أنفسهم لوجدوا أن فيهم قوى عظيمة تفوق قوى الجسد. وربما قام بعضهم باستخدامها في ظروف معينة فحصل على خوارق نفسانية تذهل عندها عقول العامة وتتحير فيها قلوب الجاهلين. ولهذا كان السحرة في قديم الأيام وما زالوا، يستلبون عقول الناس بسحرهم وخدعهم.
ومن هنا يمكن أن نفسر الكثير من الخوارق للعادات على أنها استخدام لقوانين ما فوق الطبيعة عبر السيطرة على القوى النفسانية من خلال الرياضات الشاقة والطويلة.
وهذا طريق ينكره الشرع الأنور ويحذر اتّباعه، لأنه يمثل رجوعاً إلى النفس وغروراً بها، وخروجاً عن سلطان الله وإرادته التشريعية التي تريد للإنسان أن يكون أعظم من ذلك بكثير.
ولا بد من الإشارة هاهنا إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن الإسلام بكل تشريعاته إنما يهدف إلى إيصال الإنسان إلى السعادة الواقعية التي تمثل أعلى مستوى من اللذة والتي تسمى بلذة اللذائذ. وإن الإسلام يصف التاركين لنهجه القويم بالأشقياء التعساء.
وبئس ما يتصوره البعض من أن الآلام هو التكليف الشاقة المجهد وإن إتّباع تعاليمه هو قتل للنفس ومشتهياتها.. أما ما ورد في التعاليم الإلهية حول هذا الموضوع فهو إشارة إلى قتل النفس الأمارة بالسوء والتي تريد أن تسقط الإنسان في أسفل سافلين. وما محاربة اتّباع الشهوات في مدرسة الإسلام الحنيف إلا لتحقيق العدالة والتوازن في شخصية الإنسان لكي يبقى الطريق مفتوحاً أمامه لبلوغ أعلى المراتب. ولذلك نجد الإسلام من جانب آخر يحلل للإنسان الأكل والشرب والزواج والطيبات، بل وينهى عن الإعراض عنها ويعتبر ذلك رهبانية مبتدعة.
ومن هنا فإن ما يتصوره هؤلاء حول حرمة التعاطي بالخوارق هو شبهة أخرى، وكأن الإسلام يريد للإنسان أن يكون ضعيفاً محروماً فقيراً. الإسلام عندما يحرّم التعاطي بالخوارق والانشغال برياضاتها فذلك لأنها تؤدي إلى تعاسته وشقائه. وهو من جانب آخر يحث الإنسان لبلوغ أعلى مراتب القوة والطمأنينة والسعادة. فالانشغال. بالبحث عن القوة يحرم الإنسان من سعادة القلب في ظل الحب والوُجد. والانشغال بالبحث عن المعاني فقط يحرم الإنسان من سعادة اللقاء بالمحبوب الحقيقي. ولذلك اعتبرت هذه الشواغل صارفة عن السعادة وليست سعادة بديلة.
ويوجد طريق آخر قد يسلكه البعض للحصول على خوارق العادات وذلك عبر الاتصال بالأرواح وبعض الجن وأمثالهم. وقد يحصل لبعض الجن علم بغيب أو أمر مستقبلي نتيجة وجوده خارج حاجز الزمان المادي، وقد يخبرُ صاحبه بذلك.
فقد تبين نتيجة البحث أن هناك طريقين لخوارق العادات يسلكهما الخارجون عن الشريعة، ولا يحصلون من ذلك إلا على بعض اللذات المحدودة ويقعون في أكبر مما هربوا منه. الطريق الأول طريق الرياضات النفسانية، والطريق الآخر طريق الاتصال بالجن والأرواح.
ويبقى صراط الله المستقيم الذي يصل الإنسان بسلوكه إلى أعلى مراتب الكمال، من القوة والحب والعلم والرحمة والرأفة والبهجة التي لا حد لها. هذا الصراط هو الطاعة والعبودية الخالصة لله رب العالمين الذي خلق الناس ليصلوا إليه وفي جواره حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فالميزان الواقعي الذي نقيس عليه صحة سير السالكين ليس الخوارق للعادات، وإن كانت هذه الأمور كرامات للبعض يهبها الله لهم نتيجة قربهم، وإنما هو أداء التكليف في ما أمر الله ونهى. وليست الخوارق للعادات علامة على الوصول، بل أن بينها وبين الغاية والمقصد طريقاً طويلاً لا حد له. فطوبى للواصلين الذين لم ينشغلوا عن ربَّهم بسواه، ولم يكن همّهم تحصيل لذة عابرة أو كرامة مؤقتة. وما أجمل ما قاله صادق أهل البيت عليهم السلام: "إنّ آية الكذاب أن يحدثك بما في السموات والأرض حتى إذا سألته عن حلال الله وحرامه لم يدر شيئاً".