يعاني أغلب العاملين في الساحة الجهادية من الضائقة المالية ويشعرون بثقل المشكلة حين لا يمكنهم التوفيق ما بين متطلبات الدنيا والعمل الجهادي.
فهذه المشكلة تتفاقم يوماً بعد يوم نتيجة ازدياد تكاليف المعيشة وارتفاع الأسعار وازدياد الحاجيات والالتزامات الحياتية..
وقد يفكر البعض منهم بترك الجهاد بحجة تأمين المعيشة له ولعياله وأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
فهل يعتبر هذا العمل صحيحاً، وما هو رأي المدرسة الإلهية في هذا الشأن؟
مما لا شك فيه أن هذه المشكلة قائمة، ولا يمكن تجاهلها لأنها تلقي بظلالها على الأخوة في كل يوم، وتلاحقهم في كافة أشكال المعيشة.
ولكن لنركز الكلام حول أساس المشكلة، ذلك أنه حينما يحصل تناقض ما بين الحياة الجهادية والحياة المادية بمعنى أن اختيار واحدة منهما يؤدي حتماً إلى ترك الأخرى، لقال كل القرَّاء أن المؤمن يختار حتماً الحياة الجهادية المعنوية لأنه طالب للآخرة، وهو لا يفضل عليها الدنيا الرخيصة. ولكن المشكلة أعقد مما نتصور، خاصة عندما يستخدم الإنسان تعابير الآخرة والدين لترك الجهاد. فمعظم أولئك الذين تركوا العمل في سبيل الله والتحقوا بقافلة التجار والعمال والحرفيين، لم يكن تركهم هذا على أساس اختيار الدنيا والحياة الرخيصة، وإن منا قالوا في أنفسهم إننا نعمل في التجارة مثلاً ونخدم العمل الإسلامي، وإذا لم نتفرغ الآن فسوف نتفرغ في المستقبل، عندما يصبح لدينا رأسمال جيد نحل به مشاكلنا، أو قالوا: "إن العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال" (حديث شريف). أو "ملعون ملعون من ألقى كلَّه على الناس" (حديث شريف). وبذلك لم يكن تركهم للعمل في سبيل الله إلا عملاً مقدساً (بنظرهم)، ويأخذ صفة الشرعية بل والاستحبابية أحياناً.
وحتى يمكننا فهم الرؤية الإسلامية الحقة في هذا المجال لا بد من معرفة النقاط التالية:
* الجهاد والتكليف الشرعي
يكتسب الجهاد صفتين شرعيتين، الأولى يكون فيها واجباً كما يحدث عندما يتطلب الأمر الدفاع عن الإسلام والمسلمين وبلادهم، أو عندما يعين المعصوم عليه السلام الأمر بصورة الوجوب في الجهاد الابتدائي (الغزو خارج أراضي المسلمين). ويكون الجهاد مستحباً في الحالة الثانية عند تحقق الكفاية وعدم تعين الأمر على الإنسان بذاته.
وقد أصبح للجهاد في العصر الحالي متطلبات كثيرة تدخل جميعها تحت عنوان الجهاد، مثل الأعمال الإعلامية والطبابية والتقنية وغيرها... فإذا كان الجهاد واجباً تصبح كل هذه المتطلبات واجبة أيضاً.
ثم إننا نعلم متى يكون الجهاد واجباً ولا يحتاج هذا الأمر إلى التحليل والمناقشة، وخاصة في هذه الأحوال حيث أجزاء واسعة من بلاد المسلمين محتلة ومستعمرة والإسلام مهدد، ومقدساته تهتك...
ولكن القتال والجهاد في هذه الحالة ينبغي أن يكون تحت راية شرعية إذا ما وجدت، هذه الراية التي يرفعها اليوم الولي الفقيه آية الله السيد علي الخامنئي.
* ماذا يعني لك الوجوب؟
المؤمن لا يمر على الواجب بدون مبالاة، بل يحمله بقلبه ويؤديه بجوارحه، لأنه يعلم أن الأمر الذي أوجبه الله تعالى هو الموصل إلى السعادة الحقيقية، وأن الإنسان يرتقي في سلم الكمال بقدم العبودية والطاعة.
المؤمن لا يناقش التكليف لكي لا يكون إبليسياً كما فعل الشيطان الرجيم، بل يتعبَّد به ويعشقه لأنه أمر صادر عن المحبوب، وهو لا يقدمه على أي شيء آخر لأنه يعلم أن في ذلك الخسران المبين والسقوط المريع.
إذاً، فالمشكلة بالدرجة الأولى في معرفة هذا الأمر ووضوحه. أمّا إذا عرف الإنسان كل ذلك ولم يقم به فلا يلومنّ إلا نفسه.
اتضح الشق الأول من الحل بالشكل التالي: الجهاد في هذا العصر مقدمٌ على كافة الأمور لأنه واجب إلهي.
* حقيقة الرزق في الرؤية الإلهية
سئل أمير المؤمنين عليه السلام يوماً: "إذا حُبس الرجل وسدت عليه كل النوافذ فمن أين يأتيه رزقه؟ قال عليه السلام: من حيث يأتيه أجله".
ومن خلال هذا الحديث ندرك تماماً أن الرزق أمر غيبي مطلق، كحقيقة الموت الذي لا يملك الإنسان إزاءه أي شيء. وإنما أراد أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المعنى أن يفهم بأن الرزق يأتي من مجال الغيب. فكما أن الإنسان لا يملك لنفسه قوتاً ولا حياة وإنمنا هو مأمور بتجنب الموت وأسبابه في أحيان كثيرة لأن طلب الموت قد يصبح واجباً، كذلك في الرزق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولكنه مأمور بتحصيل مقدماته.
ونحن نؤمن من خلال عقيدة التوحيد أن الله تعالى هو الرزاق المطلق الذي بيده مقاليد كل شيء وهو يُطعِم ولا يُطعم. ولم يحصر طلب الرزق في الأمور المذكورة، بل:
﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون﴾ (الذاريات- 22).
وقال تعالى: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب...﴾ (الطلاق- 3).
فيُعلم أن الذي يتهالك على طلب الرزق لا يؤمن برازقية الله تعالى، وأن الذي يظن أن رزق الله هو فقط ما يأتيه آخر الشهر لا يؤمن برازقية الله المطلقة. وقد يوكل الله تعالى العبد إلى نفسه فيظن بجهله هذه المسألة أنها حقيقية من خلال تجاربه، ويقول لقد دعوت الله تعالى ولم يرزقني شيئاً خلال الشهر كله، أو أنني كنت أقول إن الله يرزق من يشاء ولكن لم أشاهد شيئاً... "ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور".
فقد اتضح الشق الثاني من الحل بالشكل التالي: الرزق أمر غيبي مطلق وإن كان الإنسان مأموراً بتحصيله.
* كيف يتعامل المجاهد مع الضائقة المالية؟
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلباباً". المؤمن الذي اختار أداء التكليف بكل صدق وإخلاص يعلم أنه سوف يعاني في هذا الطريق الذي هو طريق ذات الشوكة الحرمان من الكثير من المسائل المادية، ويعلم أيضاً أن الله تعالى قد قال في محكم كتابه:
﴿ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين﴾. (البقرة- 155)
فيصمم على النجاح في هذا الابتلاء من خلال الاستمداد من العطايا الإلهية والفيوضات الرحمانية التي تجعل من وجوده وجوداً غنياً لا ينظر إلى الدنيا بعين الزهد فحسب، بل يتألم لأولئك الذين وقعوا أسرى شراكها ويدعو لهم بالنجاة منها.
المؤمن يسمع كلام مولاه ومحبوبه: ﴿وأنفقوا في سبيل الله...﴾، ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم﴾.
فيسارع إلى تقديم ما يزيد عن حاجته. ولكن! لا شيء يزيد عن حاجته فهو محتاج فقير. فيأتيه النداء من رب العالمين:
﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾.
ويسمع قصة أهل الكساء في سورة "هل أتى" فيتمنى لو أنه يلاقي مسكيناً أو يتيماً أو أسيراً.
إن الله تعالى قد جعل الإنفاق شرطاً للإيمان، كما جعل الزكاة والخمس شرطاً للإسلام. وهو سبحانه لا يعقل أن يفرض على الإنسان الجهاد في سبيله ثم يخظر عليه الرزق ويقطع عليه المعيشة. ولكن نحن البخلاء ونحن الحريصون الذين نظن بالله ظن السوء ونتهمه بالمنع والبخل (والعياذ بالله).
فاحذر أيها الأخ الإيماني أن تترك التكليف وأنت تظن نفسك ناجياً، وأحسن ظنك بالله تعالى ملك الملوك وأكرم الأكرمين واعلم أن "من ترك الجهاد ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء".
واسمع قول الأمير عليه السلام أيضاً: "ما ترك الناس شيئاً من أمور دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه". (نهج البلاغة).
الخلاصة:
1- عندما يقف المجاهد أمام مشكلة مادية خانقة، ماذا يفعل؟
2- يقدم التكليف بوجوب الجهاد على كل شيء.
3- لأن أداء التكليف هو سر السعادة الحقيقية.
4- إن الله تعالى لا يكلف الإنسان بشيء ويحظر عليه الرزق.
5- يتوجه إلى الرزاق العليم بالدعاء للفرج.
6- يعلم أن ذلك هو ابتلاء وامتحان.
7- ينفق ويتصدق حتى ولو كان فقيراً.
8- وعليه أن يعلم أن السعادة الحقيقية ليست في ظل الحياة المادية الهنيئة.