ملاك عبد الله
انفرد الإمام الخمينيّ قدس سره في كونه عالم دين قادَ شعباً نحو الحريّة عبر السلطة
المعنويّة والروحانيّة، واستحوذ بذلك على إعجاب بعض المفكّرين الغربيّين الذين برز
منهم ميشال فوكو(*) (1926 - 1984).
وفاجأ "فوكو" العالم عندما أعلن تأييده للثورة الإيرانيّة ووجد في شخصيّة الإمام
الخميني نموذجاً لعمل سياسيّ أطلق عليه (المعنويّة السياسيّة أو الرَوحانيّة
السياسيّة). في هذا المقال، نعرض لنظريّة هذا المفكّر الفرنسيّ وبعض ما قاله.
*الثورة ومن يحرّكها...
لطالما كانت الثورات عبر التاريخ محطّ اهتمامٍ ودراسةٍ وتداول. ومقاربةُ أيّ حدث
ثوريّ جديد ومعاصر لا بدّ وأن تستدعي معها استحضار تجارب ثوريّة سابقة، ومحاولات
لعقد المقارنات واستشراف المآلات انطلاقاً من تلك التجارب. الأمر يعود إلى ما تؤول
إليه الثورات عادةً من التمهيد لمسارات جديدة على أرض الواقع، غالباً ما يكون لها
الدور الفاعل في رسم أُطر اجتماعيّة وسياسيّة وفكرية جديدة، من شأنها أن تطبع أثرها
في السياق العامّ لتطوّر المجتمعات.
وفي حين تشترك الثورات في كونها حراكاً اجتماعيّاً فاعلاً وموجّهاً نحو هدفٍ معيّن
وتسعى العناصر الناشطة في هذا الحراك إلى تحقيقه، فإنها تتمايز فيما بينها
بخصوصيّةٍ تَسِمُ بها كلّ ثورة بحسب الظروف الزمكانيّة والثقافيّة وغير ذلك من
الإمكانيّات التي هيّأت للحدث الثوريّ.
*رجل الدولة والدين
الثورة الإيرانيّة التي شهدها التاريخ الحديث، بوصفها أحد النماذج الحيّة والمعاصرة
على الثورات التي نجحت في الوصول إلى أهدافها، تعَدُّ مادّةً دسمة للدراسة، نظراً
إلى الخصوصيّة التي تميّزها دون سواها، على اعتبار أنّها جمعت شرائح المجتمع كافّة
على اختلاف تنوّعاتهم الثقافيّة وراء قائد كاريزميّ واحد متمثّل بشخص رجل دين، في
الأساس، لا رجل سياسة، وهو الإمام الخمينيّ، ووحّدتهم نحو هدفٍ أساس يصبو إلى إسقاط
نظام الشّاه وصولاً إلى استبدال نظامٍ إسلاميٍّ به، حتّى غدا الإمام فيما بعد رجل
الدين والدولة، المؤسّس لجمهوريّة إيران الإسلاميّة الحديثة.
*كيف قرأ الغرب الحدث؟
العامل الدِّيني في هذا الإطار، واعتماد الخطاب القائم على الأيديولوجيا الثوريّة
الدينيّة، وسط ما آلت إليه الأمور في الغرب من اجتراح عالمٍ "حداثيّ" كان له مواقفه
الواضحة إزاء موقعيّة الدين في الإطار العامّ للدولة، سيجعل لهذه الثورة الخصوصيّة
الأبرز، وسيؤدّي بها إلى مواجهة تحدّيات الرّفض ومحاولات التحجيم والتشويه. كان من
الصّعب إذاً، أن تجدَ تعاطفاً غربيّاً مع الثورة الإيرانيّة ضدّ فساد الحكم
الشاهنشاهي، باستثناء بعض الأصوات الجامعيّة أو الثقافيّة هنا وهناك، التي أيّدت
بدافعٍ "أُنتي - أمريكيّ"، لا بدافع مبدئيّ يؤيّد الثورة الإيرانيّة، بما هي عليه
في الواقع.
*قال "فوكو": إنها الرَوحانيّة السياسيّة
بالإمكان، من هذا المنطلق، فهم البلبلة الواسعة وحملة الانتقادات الواضحة التي
أثيرت في وجه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الّذي زار إيران مرّتين إبان الثورة،
وأبدى حماساً كبيراً ظهر في كتاباته التي نشرها حولها، والتي توزّعت في حوالي خمس
عشرة مقالةً، كان قد توّجها بحديثه المتعلّق بالـ "الروحانيّة السياسيّة" التي
ميّزت "الانتفاضة" الإيرانية.
بغضّ النّظر عن ردود الفعل الغربية أو المناهضة تجاه حماسة فوكو، فإنَّ كتاباتٍ
كهذه من فيلسوف يعتبر ما بعد حداثويّ ومن أهمّ دعاة التحرّريّة كان لها وقعها،
وكانت آنذاك بمثابة الدعم للحركة الثوريّة القائمة، وقد وصل الأمر إلى ترجمة إحدى
مقالاته إلى الفارسية وتعليقها في جامعات طهران.
*ثورة جمعت الدين مع السياسة
لقد استشعر فوكو في زيارتيه إلى إيران في أيلول وتشرين الثاني 1978م تلاحماً بين
الفكر والعقيدة من جهة وبين توجّه النّاس صفّاً واحداً إلى مقارعة الاستبداد، ولو
أدّى ذلك إلى التضحية بالنّفس والموت من جهةٍ أخرى.
فاعتبر أنَّ الثّورة الإيرانية التي كان يُعبّر عنها أيضاً بـ"التمرّد" أو "الثورة
الدينية" قد جمعت ما بين مجالين، الروحيّ الذي يتمثّل بهذا الدافع المعنويّ
الدينيّ، المستنبط من الأفكار الإسلاميّة نفسها، والّذي أمدّ الناس بطاقة هائلة في
مقاومة التبعيّة والظلم، ومن ثمّ انتقال هذا الجانب الروحيّ للالتقاء بما هو
سياسيّ، بما يعنيه ذلك من السعي إلى تقويض الحكم السياسيّ الفاسد لاستبدال آخر به.
وذاك كان المنطلق الذي تولّدت منه تسمية "الروحانيّة السياسيّة". التّمايز بكلمة
الروحانيّة له بُعده في هذا الإطار. الأمر أشبه بوضع مقابلة ما بين "الواقعيّة
السياسيّة" كمصطلح متداول وما بين "الروحانيّة" كمصطلح جديد تنفرد به "الثورة
الإيرانيّة". وكأنّه أراد إضفاء بُعد مثاليّ على الخصوصيّة الإيرانيّة.
*فوكو فَهِم الثورة بمفرداتها
لقد كتب في هذا الصدد في كتابه "أقوال وكتابات" قائلاً: "أيّ معنى بالنسبة للّذين
يسكنون التراب الإيرانيّ يريدون البحث عنه والوصول إليه مقابل حياتهم؟ هذا الشيء
الذي نحن، نحن الآخرين، نسينا إمكانيّة حدوثه في عصر النَّهضة الأوروبيّ والأزمات
الكبرى المسيحيّة. إنّها روحانيّة سياسيّة. يمكن أن أسمع فرنسيّين يضحكون. ولكنّهم
على خطأ".
كانت انتفاضة الإيرانيين بالنسبة له ترجمة لانتفاضة الذّات: "عندما انتفض
الإيرانيّون قالوا، وربّما هذا روح الانتفاضة: علينا أن نغيّر هذا الشّخص الفاسد،
علينا أن نغيّر كلّ شيء في بلادنا. ولكن علينا بشكل خاصّ أن نغيّر أنفسنا".
ثمَّ لم ينفكّ هذا الفيلسوف الفرنسيّ يعبّر في مقاله "بماذا يحلم الإيرانيّون" عمّا
يمكن أن تؤدّيه الظاهرة الدينيّة من توليد آليات لمناهضة الحكم الاستبداديّ: "من
هذا الإسلام نفسه اشتقّوا ديناً أعطاهم مصادر لا تنتهي لمقاومة استبداد الدّولة".
يستحضر هنا الدكتور علي شريعتي، يسمّيه بالحاضر الغائب، وينوّه بكونه من
المفكّرين الشرقيين الأحرار الذين يؤمنون بالتغيير وينهضون بشعوبهم نحو الأفضل.
*وفهم الإسلام بمعناه
بعد ذلك نجده ينقل بعض الأفكار اللافتة عن الإسلام في النصّ نفسه: "فالإسلام يقدّر
العمل، لا يمكن حرمان أحد من ثمار العمل، الأشياء التي تعود ملكيّتها للجميع،
(كالمياه، والأرض) لا يجوز لأحد الاستيلاء عليها، الحريّات ستظلّ محلّ احترام، ما
دامت ممارستها لا تؤذي الآخرين. ستحظى الأقليّات بالحماية والحرية والعيش بالشكل
الذي ترغب به، بشرط عدم إيذاء الأكثريّة. سيكون هناك مساواة بين الرجال والنساء،
وسيكون هناك اختلاف أيضاً، نظراً لوجود فروق طبيعيّة بينهما. في الشؤون السياسيّة،
تؤخذ القرارات وفق رأي الأغلبيّة. القادة مسؤولون عن الشعب، وكما هو مبيّن في
القرآن، فالحاكم عرضة للمحاسبة أمام أيّ فرد في المجتمع".
*أبرز ما قاله في الإمام الخمينيّ قدس سره
لم يُخْفِ "فوكو" بعد ما سمعه من الإيرانيين عن حلمهم بالحكومة الإسلاميّة، موقفه
الذي عبّر فيه عن أنَّ الحكومة الإسلاميّة أثّرت فيه "كشكلٍ من أشكال الإرادة
السياسيّة". لقد أثّر فيّ جهدها نحو تسييس البنى الاجتماعيّة والدينيّة في مواجهة
المشاكل الراهنة. لقد أثّرت فيّ محاولتها لفتح بُعد روحيّ للسياسة"، تماماً كما
إنّه لم يُخْفِ إعجابه بالشخصيّة الكارزميّة للإمام الخمينيّ قدس سره، إذ إنّه بعد
أن التقاه في نوفيل - لوشاتو الفرنسيّة، أسرّ لـ"بول فاين" بما يلي: "هذا رجل
تكفي كلمة منه يلفظها من بعيد، لكي تجعل مئات الآلاف من المحتجّين يرمون بأنفسهم
أمام دبّابات الشاه في شوارع طهران". وقد أورد "فاين" ذلك في كتابه عن "فوكو"
الصادر عام 2008 عن دار نشر "البان ميشال".
* ملامسة حيَّة للواقع الإيرانيّ
لقد عاين "فوكو" الثورة الإيرانيّة عن قرب. يقول الباحث الفرنسيّ "أوليفييه روا" في
هذا الصدد: "عندما يتساءل فيلسوف عن عمل السلطة، فإنه يترك عالم المراجع والأرشيف
من أجل أن يحلّل حركة حقيقيّة على أرض الواقع". مواقف فوكو وحماسته، والتي اعتبرها
البعض دليلاً على إيمانه بفكر الاختلاف وتجسيداً لقيمة الغيريّة واحترام الآخر
والانفتاح على العالم الشرقيّ، لم تكن نابعة بهذا المعنى من تحيّزه المسبق لكلّ
ثورة، بحيث إنَّه بالإمكان القول إنَّ الروحانيّة كمصطلح جديد أضفاه "فوكو" على
البُعد السياسيّ للثورة لم تكن لتبرز في خطابه لولا ملامسته الحيّة للواقع
الإيرانيّ آنذاك.
بعيداً عن النقاش الدائر في الساحة الفكريّة والسياسيّة حول ما صدر عن هذا
المفكّر الفرنسي من آراء، فإنَّ بروز مواقف كتلك من شأنه أنْ يؤكّد أنّ ثمّة بُعداً
جديداً قد أضفته الثورة الإيرانيّة على أرض الواقع، بالإمكان التماس آثاره حتى
وقتنا الراهن. من هنا الحديث عن فرادة التجربة الإيرانيّة الإسلاميّة الحديثة.
(*) ميشال فوكو: فيلسوف فرنسي، كتب مقالات عن الثورة، بدا وكأنه يدعم اتجاهها
الإسلامي ورأى في الحركة الإسلاميّة، بل وفي الإسلام، برميل بارود سيغيّر ميزان
القوى في المنطقة.