نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

نبي الرحمة ويهود المكائد

الشيخ إبراهيم بدوي


درَج بعض الكتّاب على الحديث عن طريقة معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود، في الجزيرة العربية، على نحو الاتهام بالشدّة، والغلظة عليهم، وقمعهم، ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية، وصولاً إلى طردهم ونفيهم من الجزيرة، وانتهاءً بقتلهم وسَبي ذَراريهم.
فكان مفيداً تسليط الضوء على طريقة تعامله صلى الله عليه وآله وسلم معهم لمعرفة الواقع الذي كانوا عليه، وتحديد المصير الذي لقوه على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسبما تفيد المصادر التاريخيّة.


*مهادنة الرسول لليهود
جاء في البحار: فلما دخلت الأوس والخزرج في الإسلام، جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا محمد، قد أحببنا أن نهادنك إلى أن نرى ما يصير إليه أمرك.
فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكرماً، وكتب لهم كتاباً أنه قد هادنهم، وأقرَّهم على دينهم لا يتعرّض لهم ولأصحابهم بأذيّة، وضمنوهم عن نفوسهم أنهم لا يكيدونه بوجه من الوجوه ، ولا لأحد من أصحابه(1).
وكتب لكلّ قبيلة من اليهود وثيقة تخصّ كلّاً منهم.

*أبرز بنود العهد
وكان أبرز بنود هذا العهد على ما جاء في مكاتيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

-1 أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلسان، ولا يد، ولا بسلاح، ولا بكراع في سرّ وعلانية، لا بليل، ولا بنهار.

-2 أن لا يعينوا على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلسان، ولا يد، ولا بسلاح، ولا بكراع في السرّ والعلانية بليل، ولا بنهار.

-3 فإنْ فعلوا ذلك فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حلٍّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم(2).

ويظهر من هذه البنود أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان متخوّفاً من حركات اليهود المشبوهة التي يشهد عليها تاريخهم في المدينة، فشدّد عليهم الميثاق، وقيّدهم بقيود قاسية لِما يعرفه عنهم، من نقض المواثيق.
ولا يخفى أنّ جزاء الخيانة العظمى في كلّ القوانين والأعراف هو أشدّ جزاء يلقاه الإنسان. فمن الطبيعيّ أن يتشدّد النبيّ معهم في ذلك حفظاً لأمن المجتمع، ودرءاً لكلّ خطرٍ يتهدّد الأمة.

*طريقة النبيّ الكريم في التعامل مع اليهود
ورغم تخوّفه صلى الله عليه وآله وسلم من غدرهم، فقد عاملهم بالحسنى ومدّ إليهم يد الإحسان ليقطع عليهم كلّ سبل العداء له. ويأخذ منهم كلّ ذرائع الخيانة والغدر.

ولنلقِ نظرة سريعة على معاملته لهم حسبما ورد في القرآن الكريم :
-1 كان يدعوهم إلى الإسلام
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (المائدة: 14 - 16).

-2 كان يعدهم بما يعد به المسلمين
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (النساء: 62).

-3 كان يدعوهم إلى الحوار الهادئ
قال تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت: 46).

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 64).

فدعاهم إلى النقاط المشتركة التي تجمع بينهم وبين الإسلام كأديان سماويّة، وتهيئة الأرضيّة الملائمة للعيش المشترك فيما بينهم وبين المسلمين.

-4 كان يأمر المؤمنين بالعفو عن اليهود رغم أعمالهم القبيحة
قال تعالى : ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إيمانكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة: 109).

*نقض اليهود عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

لم تشفع للمسلمين تلك المعاملة الحسنة لدى اليهود فاغتنموا أوّل الفرص للانقضاض عليهم. وأهمّ وأخطر ما فعلوه كان نقْض العهد الذي وقّعوه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك خلال سنوات عدّة. وأوّل من فعل ذلك منهم كان بنو قينقاع، ثم نقض بنو النضير العهد، الذين كانوا القبيلة الكبرى في اليهود من حيث العدد. ثمّ في معركة الأحزاب نكث بنو قريظة، واتّفقوا مع المشركين على أن يظاهروهم على المسلمين.

أ- بنو قينقاع

فبعد بضعة وعشرين يوماً من وقعة بدر نقض بنو قينقاع عهدهم، وحاربوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في منتصف شهر شوال من السنة الثانية للهجرة، قال البلاذريّ:
"ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كتب بينه وبين يهود يثرب كتاباً وعاهدهم عهداً. وكان أوّل من نقض ونكث منهم يهود بني قينقاع، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة"(3).

ب- بنو النضير
ولا شك في أنّ بني النضير، كسائر اليهود، لم يرتاحوا لنصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين في بدر، فلم يمضِ شهران على وقعة بدر حتّى بدأت تظهر مؤامراتهم ودسائسهم، فحاولوا قتْل النبي غِيلةً، ولكنّ الله كشف أمرهم. فحاصرهم النبيّ حتّى نزلوا على حكمه فأمر بخروجهم من المدينة.
"فخرجوا، فوقع قوم منهم إلى فدك ووادي القرى، وقوم إلى أرض الشام، وكان مالهم فيئاً لله ورسوله من غير أن ينال شيئاً من ذلك جيش الإسلام(4).

ج- بنو قريظة
وفي وقعة الأحزاب التي حصلت في السنة الخامسة للهجرة نقض بنو قريظة العهد، وتآمروا مع مشركي مكّة في أكبر وأخطر حرب على النبيّ والأمّة الإسلامية، ولكنّ الله تعالى رد الأحزاب خائبين وانكشف أمر اليهود، فحاصَرهم النبي حتّى نزلوا على حكمه، كما ذكر في كُتب التاريخ بشكل مفصَّل.

وهكذا، وقع اليهود في شرّ أعمالهم، ولم يتمكنوا من الوقوف في وجه المدّ الإسلامي، فدارت عليهم الدائرة، وضعف أمرهم في الجزيرة العربية إلى حدّ الزوال والانقراض.
ولا يزالون إلى اليوم يحمل الكثير منهم تلك الروح الخبيثة التي لا تفتأ تكيد المكائد وتدبّر الدسائس بهدف السيطرة والعلوّ. وقانا الله شرّهم وانتقم منهم.


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 90، ص69.
2- مكاتيب الرسول، علي الأحمدي الميانجي، ج3، ص 52 - 55.
3- فتوح البلدان، البلاذري، ج1، ص17.
4- سيرة ابن هشام، ج3، ص199.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع