نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

المرحلة المكيّة: دعوة الخلق الحسن


الشيخ هشام شري

امتلأت صفحات التاريخ بمساوئ ومثالب المرحلة الجاهليّة التي كان يعيشها العرب، هذه المرحلة التي اختصرها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "بعثه والنّاس ضلّال في حيرة وحاطبون(1) في فتنةٍ، وقد استهوتهم الأهواء، واستزلّتهم الكبرياء واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء، حيارى في زلزالٍ من الأمر وبلاءٍ من الجهل"(2).

ومقابل هذه الجاهلية، بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم معلناً أنّ هدفه يتلخّص بإعادة صياغة الأخلاق في المجتمع: "إنّما بُعثت لأتمّم‏ مكارم‏ الأخلاق‏"(3). فكيف يمكن إحداث هذا التغيير الجذري في المجتمع لينتقل من الحضيض إلى قمّة الأخلاق، بأسلوب أخلاقي يمثّل القدوة التي يدعو إليها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ فمن غير المنطقي استعمال القاعدة الغربية (الغاية تبرر الوسيلة) لنتقبّل أيّ أسلوب يمكن سلوكه ما دام الهدف شريفاً! فالشريف يحمل هدفاً شريفاً، ووسيلة شريفة ولا يصدر عنه إلّا ما يتناسب مع أخلاقه وقيمه.

*أساليب التغيير الممكنة
هناك عدّة أساليب وطرق يمكن سلوكها من قبل الإنسان عادة لتحقيق التغيير في المجتمع، ولعلّه من أهمّ هذه الأساليب:

1- التغيير من الداخل:

الانخراط في المجتمع وتبنّي طريقته للعمل على التغيير التدريجي من الداخل. وهذا الأسلوب لا يمكن اتّباعه من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ فيه إقراراً بطريقتهم أولاً، وهو أسلوب يحتاج إلى أجيال لتحقيق التغيير على فرض نجاحه، ثانياً. مضافاً إلى أنّه على المستوى الأخلاقي نوع من التحايل الذي لا يتناسب مع شخصيّة النبيّ الصادق الأمين. لذلك نجده من اليوم الأول صريحاً وواضحاً، يصدح بهم قائلاً: "يا معشر قريش ويا معشر العرب، أدعوكم إلى عبادة الله تعالى وخلع الأنداد والأصنام، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنّة"(3).

2- من خلال انقلاب عسكري:

التغيير من خلال انقلاب عسكري، على الوضع القائم، يمكن أن يستفيد من تناقضات المجتمع والقبائل، ليفرض نهجه بقوة السلاح. هذا الخيار يحتاج إلى مقدّمات وإعداد وأنصار، وهذا ما لم يكن جاهزاً.

لكننا قبل مرحلة الإعداد والجهوزية نجد الأمر بعيداً عن سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وطريقته وأخلاقه. فهو الذي رفض التسلّط والقمع والإرغام، وأصرّ على هذا المنهج رغم ردّات الفعل القاسية التي كان يتعرّض لها في بعض الأحيان، كما حصل معه في الطائف، حيث ينقل التاريخ أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أقام في الطائف عشرة أيّام لا يدع من أشرافهم أحداً إلّا جاءه وكلّمه، فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم، فطلبوا منه أن يخرج عنهم، وأغروا به سفهاءهم، فجلسوا له في الطريق، يرمونه بالحجارة حتى شُجّ في رأسُه الشريف.

3- تفعيل الفطرة السليمة:

التغيير من خلال تفعيل الفطرة السليمة وفتح عين البصيرة والإقناع العقلي الذي يلاقي خطاب الوجدان، ليعود الإنسان إلى إنسانيّته فيشعر بها ويطمئن إليها. وهذا هو الأسلوب الذي يتناسب أكثر مع صفات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويتطابق مع سيرته.

ومن خصائص هذا الأسلوب أنه لا يتوقّف عند قشور المصالح الشخصيّة، فيترفع عن غِيَر الزمان ويجتاح أعماق الإنسان بشكل يصعب بعد ذلك إزالته.

ولكن مثل هذا التغيير يحتاج، عادةً، إلى وقت طويل وصبر وقابليّة وبصيرة. ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه استطاع أن يطمر تلك الفجوات في مرحلة التأسيس حتى ثبت الدين، وقوي عوده.

هذا هو المنهج الذي اتبعه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهو على طرف النقيض ممّا يحاول أن ينسبه له بعض خوارج هذا العصر، من حركات تكفيريّة تتبع أساليب تتماشى تماماً مع الجاهلية التي كانت سائدة قبل الإسلام من قتْل، وسبْي، وإغارة وإجرام، محاولةً إزالة العالم الإسلامي من قمم الأخلاق لرميه في حضيض الجاهليّة من جديد.

*الخطوة الأولى وتقديم القدوة

لقد بدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة الفردية التي سمّيت بالدعوة السريّة، وكانت تهدف إلى بناء النواة الأساسيّة التي تمثّل الإسلام، والتي تعكس صورة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يمتلك من خلق، فما هي النماذج الأخلاقيّة التي قدّمها الإسلام؟ من هذه الطليعة:

1- الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام:
والذي يمثّل بسلوكه وسيرته، بل بكلّ وجوده أخلاق الإسلام وإنسانيّته، وليس في المجال متّسع لذكر نماذج من ذلك، وقد أغنتنا الشهرة عن ذكرها.

2- خديجة بنت خويلد عليها السلام،
التي استطاعت، إضافة إلى توفير قوة اقتصاديّة لدعم الرسالة، استطاعت أن تقدّم نموذجاً للمرأة المسلمة، فخديجة كانت المرأة التي يُشار إليها بالبنان، ليس لمجرّد ثروتها، بل لشرفها وسُمعتها وطهارتها. ولا شك في أنّها تشكّل النموذج القدوة؛ إذ تتوق كلّ امرأة شريفة للتمثُّل بها.

3- أبو طالب:
الذي بقي سيّداً رغم فقره وعوزه الماديّ، بقي سيّداً في قريش بحضوره وسلوكه وأخلاقه وصفاته الشخصيّة التي حفظت له هذا الموقع المتقدّم في المجتمع، فهو مضافاً إلى كونه المدافع الأوّل عن الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذي لم تجرؤ قريش على التعرض للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، يكمل الصورة الأخلاقيّة للمسلم، ويقدّم القدوة والنموذج لزعماء قريش ووجهائها فضلاً عن عامّة الناس.

4- جعفر بن أبي طالب (جعفر الطيّار)،
هذا الرجل العظيم الذي استطاع من خلال علمه وأخلاقه أن يؤثّر في مجتمع الحبشة وملكها النجاشيّ، رغم وروده إلى الحبشة مع مَن معه بعنوان اللّجوء، وهو عنوان يتضمّن الحاجة ولا يساعد كثيراً على التأثير في المحيط.

5- مصعب بن عمير،
وشخصيّته التي حملت الإسلام إلى مدينة يثرب... وغيرهم من الشخصيّات التي لا مجال لذكرها.

ويُعتبر كلّ منهم عنواناً لمرحلة من المراحل المكيّة التي مرَّ بها الإسلام ونبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

وبعد ذلك كان الإعلان العامّ بمرحلتيه: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (الشعراء: 214) ثم ﴿فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر: 15).

*الغزو المحمّديّ
هل حصل غزو من قبل النبيّ قبل الهجرة؟ نعم حصل غزو ولكن من نوع آخر، إنّه غزو العقول والبصائر والحضارات والأخلاق الحميدة. ونقدّم نموذجين حصلا في هذه المرحلة:

النموذج الأوّل: الهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة من البعثة، وكان ظاهرها التخلّص من ظلم وجور قريش بعد الأذيّة التي كان يتعرّض لها المسلمون، ولكن واقعها لم يكن إلّا غزوة للحبشة بالأسلوب النبويّ الرساليّ، غزوة ليست بالسيف أو الخيل، لكنّها غزوة الفكر، والبصيرة، والقيم والأخلاق. فقد عرف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قابليّة الحبشة لذلك حيث قال: "إنّ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق..."(5) فأرسل إليها أبطال الإسلام وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب، حيث استطاع أن يؤثّر في ذلك المجتمع ويجعله قريباً من الإسلام حتّى إنّ النجاشي ملك الحبشة اعتنق الإسلام متأثّراً بنموذج الإنسان المسلم، المؤمن، والمضحّي والعادل الذي قدّمه جعفر بن أبي طالب ومن معه. هذا هو الغزو المحمديّ الحقيقيّ.

النموذج الثاني: الغزو الذي نجده أيضاً لمدينة يثرب، حيث لم يدخلها بسيف أو خيل أو طبول حرب، بل دخلها بالعلم والبصيرة من خلال الأفراد الذين كانوا يتوافدون إلى مكّة، ثمّ أرسل إليها مصعب بن عمير، ليعلّم أهلها القرآن والأحكام ويفتح بصائرهم على الإسلام فكان الغزو المحمّدي الآخر(6). فمن أراد أن يعرف الغزو المحمّدي على حقيقته فعليه أن يقرأ هاتين التجربتين.

أمّا غزواته العسكرية فلو عدنا للسيرة والتاريخ لوجدناها ردّة فعل على ما يفرضه الأعداء من تحدّيات عسكريّة لا بدّ من مواجهتها، فالإسلام صاحب المنطق والعلم والبصيرة، ولكنّه في الوقت عينه ليس ضعيفاً أمام المجرمين والسفهاء ولا يمكن أن يقبل الاستضعاف... وهذا المنهج تجسّد بعليّ بن أبي طالب عليه السلام مدينة العلم وسيف الانتصارات...


1- ووردت في نسخ أخرى "خاطئون" "خابطون".
2- نهج البلاغة، الخطبة 91.
3- تفسير نور الثقلين، ج5، ص392.
4- إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي، ج1، ص106.
5- مكاتيب الرسول، الأحمدي الميانجي، ج2، ص449.
6- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص38.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع