لآية الله جعفر السبحاني
كتاب "الوهابية في الميزان" لآية الله جعفر السبحاني، هو واحد من أهم الكتب التي عرضت للرد على الفرقة الوهابية وكشفت زيفهم وزيف عقائدهم بأسلوب متين واستدلال عميق مستمد من كتاب الله تعالى، وسنة نبيّه، وسيرة أصحابه.
والمحور الذي يدور حوله هذا الكتاب في دحض آراء الوهابيين ومعتقداتهم، يدور حول تبيين معنى كل من التوحيد الذي يتغنون به، والشرك الذي يصمون ويتهمون به أبناء الأمة الإسلامية ممن لا يقول بآرائهم. كما يعنى بتوضيح مفهوم العبادة في التشريع الإسلامي، والتي لم يفهم هؤلاء ركناً منها.
كتاب قيم ببراهينه واستدلالاته، مؤلف من عشرين فصلاً، يقع في 427 صفحة من القطع الوسط، صادر عن مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
في مقدمة هذا الكتاب، عرض المؤلف لآراء الوه
ابيين في التوحيد التي تستمد جذورها من آراء ابن تيمية فيه والذي يذهب إلى القول بالتجسيم واثبات الجهة لله سبحانه فيقول: "إنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليّ على خلقه".
يقول: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له".
ويعلق المؤلف على آرائهم هذه بقوله: "إذا كان هذا رأي الأستاذ، فكيف بمن يلحس قصاعه ويجلس على موائده أمثال ابن القيّم، ومحمد بن عبد الوهاب وهؤلاء يريدون أن يكونوا أساتذة في التوحيد ودعاته"!
كما أشار المؤلف إلى تزلف علماء الوهابية إلى سلاطين الجور وإضفائهم الطابع الشرعي لكل تصرفات هؤلاء بما فيها هجمتهم على الثورة الإسلامية، وتشويه صورتها أمام الرأي العالمي عندما باءت مخططاتهم العدوانية المباشرة بالفشل.
وفي مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب، دعا المؤلف إلى عقد مؤتمر إسلامي عالمي لدراسة التوحيد والشرك ومعالجة الأمور المختلف عليها بين جميع الفرق الإسلامية على ضوء العلم والمنطق والدليل.
بعد ذلك توقف المؤلف في الفصل الأول عند سيرة زعيم الوهابية محمد بن عبد الوهاب ليعرض لمحات منها تبيّن ضلالته وانحرافه وما أديا إليه من نبذه من قبل المسلمين كافة في الأقطار التي حلَّ بها.
كما وقف المؤلف وقفة قصيرة للتعريف بابن تيمية وبآرائه الضالة التي أدت إلى تكفيره تارة وتفسيقه أخرى من قبل الفقهاء، والحكم بانحرافه عن جادة الحق.
في الفصل الثاني من هذا الكتاب، تناول المؤلف الكلام عن مسألة بناء قبور الأولياء وناقش مسألة جوازها أو عدمه، وذلك في ردّ منه على الوهابيين الذي يذهبون إلى تحريم ذلك، مستندين على أمرين هما:
أ- إجماع علماء الإسلام على التحريم.
ب- حديث أبي الهيّاج عن الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام وما شابه ذلك.
فابتدأ أول ما ابتدأ، في الرد عليهم، بتبيان رأي القرآن في ذلك، حيث رأى أن القرآن لم يتعرض إلى هذه المسألة مباشرة وبصورة خاصة، وإنما هناك بعض الآيات الكريمة العامة يمكن من خلالها استخلاص حكم في ذلك.
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
فبعد عرضه لهذه الآية، توقف الشيخ السبحاني عند معنى كلمة شعائر (جمع شعيرة) فرأى أن معناها معالم دين الله تعالى.
فإذا كان الصفا والمروة، والهدي، والمزدلفة وكل منسك من مناسك الحج يعتبر شعيرة من شعائر الله التي يجب أن تعظم، فكيف بأنبياء الله تعالى وأوليائه الذين أفنوا أعمارهم في الدعوة إلى الله تعالى وإلى إعلاء كلمته؟ ألا ينبغي أن يعظموا في حياتهم وبعد مماتهم؟ ألا يجب أن تخلد ذكرياتهم- ومنها قبورهم- كما تفعل سائر الشعوب والأمم؟ وهل تعظيم شعائر الله يكون بهدم قبور أوليائه وإهمال الساحات المحيطة بها وتحويلها إلى خربة مهجورة موحشة كما يفعل الوهابيون؟!
وقال تعالى في آية أخرى: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور﴾، وهل المودة إلا تعظيمهم وتخليد ذكراهم؟!
ثم إن القرآن الكريم- في قصة أصحاب الكهف- يذكر بأن الناس عندما اكتشفوا أمرهم وهرعوا إلى الكهف اختلفوا حول مدفنهم فمنهم من قال: "ابنوا عليهم بنياناً" وهم الكافرون، ومنهم من قال: "لنتخذنّ عليهم مسجداً" وهم المؤمنون. وكان رأي المؤمنين هو الراجح فبني المسجد وصارت قبور أصحاب الكهف مركزاً للتعظيم والاحترام.
هذا والقرآن الكريم يذكر قصة مدفنهم دون أن ينتقد أياً من الرأيين، مما يدل على عدم حرمتهما، وأن البناء على قبورهم تعظيماً واحتراماً لهم.
وفي مناقشته للآية الكريمة ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال﴾. رأى الشيخ السبحاني أن البيوت أعم من المساجد وغيرها من الأماكن الأخرى، فهي قد تنطبق على المساجد وعلى غيرها من بيوت الأنبياء والأئمة الصالحين.
وقد أذن الله سبحانه لهذه البيوت أن ترفع، سواء كان الرفع فيها مادياً بتشييدها وصيانتها من الخراب، أو كان معنوياً بتكريمها وبتجليلها وصيانتها وتطهيرها مما لا يليق بشأنها.
بعد ذلك عمد المؤلف إلى بيان ما كان عليه حال الأمة الإسلامية من المحافظة على قبور الأنبياء وصيانتها، والتي كانت موجودة في البلاد التي افتتحوها، وذلك دون أن يصدر منهم أي رد فعل سلبي تجاهها، أو ما يوحي بحرمة بنائها أو الإبقاء عليها.
هذا بالإضافة إلى أن الآثار الإسلامية تشكل دليلاً هاماً على أصالة الدين.
هنا توقف المؤلف عند الدليلين اللذين استدلّ بهما علماء الوهابية على حرمة بناء القبور وهما: الإجماع وحديث أبي الهيّاج، فرأى بعد أن درس هذا الإجماع وناقشه بأنه لا أساس له من الصحة. أما حديث أبي الهيّاج فإن في إسناده رجالاً غير موثقين. وأما دلالته فهي مخالفة تماماً لما ذهب إليه الوهابيون من حرمة بناء القبور، من أراد التوسع فعليه مراجعة الكتاب.
بعد ذلك، عرج الشيخ إلى الكلام عن بناء المساجد بجوار قبور الأولياء، مناقشاً الحرمة التي ادعاها الوهابيون في ذلك، فدحض مزاعمهم وفند مدعياتهم على ضوء دراسة دلائل الأحاديث التي اعتمدوها في ذلك.
ومن ثم انتقل للكلام عن زيارة القبور ليدرسها على ضوء الكتاب والسنة فعالج موضوع زيارة القبور في الكتاب في قوله تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه الصلاة والسلام بعدم الصلاة والإقامة على قبور المنافقين سواءً كانت الإقامة عند الدفن أو بعده. قال تعالى: ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
وإذا ما كان هذا هو الحال مع المنافق، فإن مفهوم الآية يدل على جواز زيارة قبر المؤمن ولو بعد مئات السنين.
أما بالنسبة للزيارة على ضوء الأحاديث فيستفاد منها أن رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام كان قد نهى عن زيارة القبور لمرحلة مؤقتة، ثم ما لبث أن رخص ذلك. وقد روي أصحاب الصحاح عنه صلى الله عليه الصلاة والسلام قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة".
بعدها عرض المؤلف للكلام عن النتائج والآثار الايجابية لزيارة القبور لا سيما قبور الشخصيات الدينية، ليقف بعدها عند الأدلة المشرعة والمجوزة لإقامة الصلاة والدعاء عند قبور الأولياء التي حرمها الوهابيون، ووصموا كل من يقوم بها بالكفر والشرك، ونحن هنا في هذه العجالة نذكر بعضاً منها:
1- أن القرآن الكريم يبيّن في قصة أصحاب الكهف رأي المؤمنين الذين ارتأوا أن يتخذوا على قبورهم مسجداً، وذلك لأداء الفرائض الدينية في ذلك المكان الذي ازداد شرفاً ومكانة بحلول أصحاب الكهف فيه. هذا دون أن ينتقد القرآن أو يرد رأيهم، وهو الذي من عادته أن يرد العقائد الباطلة والآراء الفاسدة كلما عرض لأي منها.
وفي هذا دليل واضح على إقراره لعملهم وموافقته عليه.
2- كذلك أمر القرآن الكريم حجاج بيت الله الحرام إقامة الصلاة عند مقام نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾.
3- إن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام التي تروي عن النبي في أحاديث صحيحة أن رضاها هو رضى الله ورسوله وأن غضبها هو غضب الله ورسوله- كانت تزور قبر عمِّها حمزة في كل ليلة جمعة- أو في الأسبوع مرتين
- وكانت تبكي وتصلي عند قبره. يقول البيهقي: "كانت فاطمة عليها السلام تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده".
وتحت عنوان "التوسل بأولياء الله" عرض المؤلف لجملة من الأحاديث الشريفة التي تبين مشروعية ذلك، دارساً لصحة إسنادها ولمضامينها التي توضح حلية، بل واستحباب ذلك من جهة، وبطلان عقيدة الوهابيين فيه من جهة أخرى.
هذا وعلاوة على ذلك كله، فالقرآن يؤكد على ذلك بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ بعد ذلك كان للمؤلف وقفة مع النذر لأهل القبور، ومن ثم مع تكريم ذكرى ولادة أولياء الله ووفياتهم، والتبرك والاستشفاء بآثار أولياء الله سبحانه، فقدم الدلائل المقنعة والبراهين القاطعة على جواز ذلك.
هنا عقد المؤلف فصلاً مطولاً تطرق فيه إلى الكلام عن معنى العبادة والتوحيد فيها، وذلك بعدما أشار إلى ما يعتقده الوهابيون فيها وأبطله.
فقد رأى أن العبادة هي عبارة عن خضوع وتذلل مقرون باعتقاد خاص بأن ذلك المخضوع والمتذلَّل له رباً وإلهاً يملك التأثير في الأشياء على نحو الاستقلالية، وإذا لم يتم هذان الأمران فلا عبادة في البين. وكذا إذا كان الخضوع والتذلل وحده دون هذا الاعتقاد الخاص، فلا تحقق للعبادة حتى ولو كان ذلك بمظهرها، وعليه فلا يمكن اعتبار أعمال الوقوف بخشوع وتذلل بمحضر أو بمقام أحد الأنبياء أو الأولياء الصالحين عبادة، ولا التبرك بالتمسح بالحجر الأسود أو بالكعبة المشرفة الذي يمارسه جميع المسلمين عبادة، إذ المناط في ذلك كله وفي فصل وتمييز العبادة عن غيرها النية القلبية ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾.
وقد عرض المؤلف في هذا السبيل نماذج قرآنية أمر فيها المولى سبحانه بعض عباده بالسجود لمخلوق مثلهم كما في قصة آدم وسجود الملائكة له، أو في قصة يوسف وسجود إخوته وأبويه له. ولم يعتبر أحد من المسلمين ولم يفهم الأمر على أنه عبادة للمخلوق أو شرك بالله، بل فسروه على أنه نوع من التكريم والتعظيم. ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأعراف: 28).
وفي إجابة منه عن سؤال: كيف نحسم الموقف؟ توجه المؤلف إلى القارئ الكريم بإلفاتة رائعة بيَّن فيها مشكلة المسلمين الأساس مع الوهابيين فقال: "أيها القارئ الكريم، يجب أن تعلم بأن إزالة الخلافات الموجودة بين المسلمين والوهابيين في كثير من المسائل- تتوقف على تحليل مفهوم "العبادة"، ومع عدم الوقوف على تعريف منطقي للعبادة، وعدم التفاهم والإنصاف بين الطرفين، لا فائدة من البحث والمناقشة.
من هنا.. فلا بدّ للإنسان المحقق أن يقوم بجولة تحقيقية في عمق هذا الموضوع، وأن لا ينخدع بالتعريفات اللغوية المجملة- الناقصة عن التحليل والتوضيح- وخير مصدر يرجع إليه الآيات القرآنية، فهي الدليل والمرشد في هذا المجال، وكل مجال.
ومن المؤسف أن كل الكتَّاب والمؤلفين الوهابيين- وكذلك الذين كتبوا الردود على معتقداتهم- قد أطالوا البحث والتحقيق في نقاط أخرى، ولم يركزوا على هذه النقطة المهمة بالشرح والتحقيق.
فالوهابيون يقولون: إن كثيراً من الأعمال التي تقومون بها- أيها المسلمون- تجاه النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) هي عبادة لهم، وذلك يستلزم الشرك في عبادة الله تعالى.
فيجب على المسلمين أن يقدموا توضيحاً وتشريحاً دقيقاً ل-"العبادة" حتى يجردوا الوهابيين من هذا السيف الموهوم.
بعد ذلك عمد المؤلف إلى الكلام عن الاستعانة بأولياء الله تعالى، فقسَّمها إلى خمسة أقسام هي:
1- الاستعانة بالحي لبناء دار أو سقي ماء.
2- الاستعانة بالحي للدعاء والاستغفار لنا.
3- الاستعانة بالحي على انجاز معجز دون استعانته بالأسباب المادية، كشفاء مريض دون دواء.
4- الاستعانة بالميت للدعاء والاستغفار لنا مع الاعتقاد بأنه حي يرزق.
5- الاستعانة بالميت على انجاز عمل معجز كشفاء مريض أو عودة مفقود، وكذا مع الاعتقاد بأنه حي يرزق.
وبعد أن قسم الاستعانة إلى هذه الأقسام الخمسة جعل يبيّن مشروعية كل منها فرأى أن الصورة الأولى تشكل الحجر الأساس للتمدن البشري بما أنها تقوم على أساس التعاون الذي يحتاجه بني البشر فيما بينهم.
والصورة الثانية هي من الضرورات التي لا يختلف فيها اثنان، وقد أكّد عليها القرآن الكريم في موارد متعددة ذكر منها المؤلف حوالي الثمانية.
أما بالنسبة للصورة الثالثة (وهي الاستعانة بالحي على انجاز عمل معجز) فقد عرض فيها لدرس وتمييز الفعل الإلهي عن غيره، فرأى أن الأفعال الإلهية هي التي ينفذها الفاعل- وهو الله جل وعلا- دون تدخل الغير في تنفيذها، أو احتياج للغير في انجازها. أما الأفعال غير الإلهية- سواء كانت بسيطة وعادية أو صعبة وغير عادية- فهي التي لا يكون الفاعل فيها مستقلاً في تنفيذها، بل يتم التنفيذ تحت ظل قدرة مستقلة، وبالاستمداد منها، وهي قدرة الله تعالى.
وبناءً على هذا، فليس هناك أي مانع من أن يتفضل الله على أوليائه بالقدرة على انجاز الأعمال الخارقة للعادة والطبيعة، والتي يعجز البشر عادة عن القيام بها".
وقد أكّد القرآن الكريم على هذا النوع من الأعمال بقول الله سبحانه مخاطباً النبي عيسى عليه الصلاة والسلام:﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (المائدة: 110).
مما يدل على أن أولياء الله كانوا يملكون هذه القدرة، وأن طلب الناس منهم القيام بالأعمال الاستثنائية والإعجازية كان أمراً متداولاً معروفاً.
وبالنسبة للصورتين الخيرتين (الاستعانة بأرواح الأولياء للدعاء والاستغفار أو للإتيان بعمل معجز) فإن البحث فيهما يرتبط بأربعة أمور، إذا ما درسها الإنسان واطلع عليها جيداً تبين له صحة الاستعانة والاستغاثة بالأرواح المقدسة. وهذه الأمور هي:
1- بقاء الروح بعد الموت.
2- حقيقة الإنسان هي روحه.
3- امكانية الاتصال بعالم الأرواح.
4- الأحاديث الصحيحة التي رواها المحدثون، والتي نادت بصحة الاستعانة بأولياء الله بعد مماتهم، وكذا سيرة المسلمين الجارية على ذلك.
وبعد أن أثبت المؤلف هذه الحقائق الأربعة توصل إلى جواز ومشروعية مثل هذه الاستعانة بأرواح أولياء الله تعالى.
بعد ذلك عرض المؤلف للكلام عن طلب الشفاعة من أولياء الله سبحانه، فبين مشروعيتها وجوازها في الإسلام، ثم عرض بعدها لأدلة الوهابيين على حرمة التشفع بغير الله سبحانه وأورد عليها ردوداً قاطعة.
أما عن الاعتقاد بالقدرة الغيبية لأولياء الله تعالى والتي يعتقدها الوهابيون شركاً بالله تعالى فقد فصل المؤلف فيها القول، بأن بيَّن نماذج لها في أفعال بعض الأنبياء والملائكة، ذكرها الله في كتابه العزيز، كقدرة نبي الله يوسف الغيبية في ارتداد بصر يعقوب عليه الصلاة والسلام بعد أن بعث بقميصه إليه، وانفجار الحجر بين يدي موسى عليه الصلاة والسلام اثنتا عشرة عيناً، وتسخير الريح لسليمان عليه الصلاة والسلام، وقدرة نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام على الإشفاء والإحياء بإذن الله تعالى، وتدبير بعض الملائكة لأمور وشؤون العالم.
وهكذا فإن الحل كائن في التمييز بين القدرة المستقلة والقدرة المكتسبة، فالاعتقاد بالقدرة المستقلة- لغير الله- يستلزم الشرك به سبحانه، بينما الاعتقاد بالقدرة المكتسبة- في أي مجال- هو التوحيد بذاته.
ومن هنا فإن الاعتقاد بالقدرة الغيبية لدى أولياء الله سبحانه لن يرافقه الشرك بل هو التوحيد بعينه بشرط أن تعتبر تلك القدرة مسندة إلى القدرة الأزلية لله تعالى.
كما بيّن المؤلف لغط الوهابيين في القول بأن طلب المعجزة من أولياء الله شرك، وذلك أن نبي الله سليمان طلب من قومه إحضار عرش بلقيس بطريقة إعجازية وقد أجابه "الذي عنده علم من الكتاب" إلى ذلك. ومعاذ الله أن يطلب نبي الله تعالى شيئاً محرماً أو يقوم به.
بعدها انتقل المؤلف إلى الكلام عن الحلف على الله بحق الأولياء والحلف بغير الله تعالى مبيناً أيضاً مشروعية ذلك راداً ما زعمه الوهابيون من الحرمة، وانتقل بعدها ليعقد فصلاً مطولاً يبين فيه أهداف الحج العبادية والسياسية من كتاب الله سبحانه والسنة المطهرة وسيرة السلف الصالح، مستنكراً ما يعمد إليه الوهابيون من منع حجاج بيت الله الحرام من العمل لبلوغ هذه الأهداف، متذرعين بحرمة الجدال في الحج غافلين عن معنى هذه الكلمة الحقيقي، ومتغافلين عن عدم انطباقها على تبادل الآراء والأفكار ووجهات النظر والمناقشات البناءة لإظهار الحقائق وإيصال صوت الحق إلى مسامع المسلمين في أقطار المعمورة كافة.
وفي خاتمة المطاف عرض المؤلف للكلام عن البكاء على الميت وبين جوازه بدليل بكاء الرسول صلى الله عليه وآله على ولده إبراهيم، وعلى عمه حمزة وقوله الشهير في ذلك: "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون".
كما ناقش مسألة إضافة لفظ "العبد" إلى المخلوق، وبين مشروعية ذلك بتبيان المعنى المراد من كلمة العبودية من وجهة نظر القرآن والسنة.
وفي الختام دعا المؤلف إلى توحيد الكلمة ووحدة الصف، والاعتصام بحبل الله سبحانه، وندد بما يقوم به الوهابيون من شق عصا المسلمين، ومفارقة السواد الأعظم في كثير من الأمور التي طالما اتفق عليها المسلمون قبل ظهور باذر الشكوك- ابن تيمية- وساقيها- محمد بن عبد الوهاب.