هل أن هذا العالم الذي نعيش فيه حق وخير؟ أم أنه باطل وشر؟ أم أنه مزيج من الحق والباطل، والخير والشر؟ وعلى الاحتمال الأخير فأيهما الحاكم على الآخر؟.
هذه الأسئلة والكثير من مثيلاتها تطرح حول وجود العالم بشكل عام، كما تطرح حول الإنسان والطبيعة البشرية فردية كانت أم اجتماعية. وقد اختلفت المذاهب وتعددت الآراء في الإجابة عليها. في هذا البحث المتواضع سوف نتعرض لأهم النظريات في هذا المجال الذي ذكرها الفلاسفة والمفكرون وعلماء الاجتماع ثم نختم بالنظرية التوحيدية الإسلامية المستقاة من ينبوع المعرفة الزلال للقرآن الكريم وأحاديث أهل بيت العصمة عليهم السلام.
* مذهب المتشائمين
أكثر الفلاسفة الماديين لديهم نظرة متشائمة عن الطبيعة لما يعتقدون به من عدم وجود خالق حكيم وأن العالم والإنسان معلول لمجموعة من التصادفات الطبيعية. فعالم الطبيعة مركب من عناصر متضادة فيما بينها وهي في حالة صراع دائم وتكون النتيجة دائماً لصالح الأقوى.
إذاً، فالإنسان كونه جزءاً من هذا العالم أيضاً ظالم وشرير في طبيعته ووجوده، وتركيب خلقته على أساس الشر والفساد. أما الخير والأخلاق والقيم الإنسانية في تاريخ البشرية فهي أمور جبرية اضطر الإنسان إلى اعتبارها من أجل مصالحه وأهوانه. فالإنسان الأولي عندما وقف أمام الحيوانات المفترسة وكوارث الطبيعة، ولم يستطع مواجهتها بمفرده اضطر لأن يعقد الصلح مع الآخرين ويتفاهم وإياهم ويتعاون معهم لمواجهة الأخطار الداهمة.
وبناء على هذا، فإن الفلاسفة المؤيدين لهذه النظرة "وأكثرهم ماديون"، ينظرون بتشاؤم إلى طبيعة البشر وأنها غير قابلة للصلاح أو الإصلاح، تماماً كمن يضع قانوناً للعقرب. فعندما تكون طبيعة العقرب اللذع فوضع القانون لها لن يجدي نفعاً.
ومن هنا فإن الكثير منهم يجوّز الانتحار، لأنه إذا كانت طبيعة الإنسان الشر، فالكمال النهائي الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان أن يكون شريراً مطلقاً وأن يكون مستعداً لإيصال الشر والقتل والظلم إلى كل موجود حتى ولو كان نفسه. فقتل النفس هو أقصى درجات البشريّة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان وذلك هو كماله النهائي.
* القرآن والمتشائمون
يرفض القرآن هذه النظرة المتشائمة عن الطبيعة البشرية رفضاً قاطعاً. ففي قصة خلق آدم عليه السلام، عندما يخبر الله تعالى الملائكة قائلاً: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾، ظنت الملائكة أن هذا الموجود شرير مفسد سفاك للدماء، ولذلك أجابت: ﴿قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك﴾.
الله تبارك وتعالى رفض نظرة الملائكة هذه لطبيعة الإنسان وقال لهم: ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾. أي أنكم لا تعلمون حقيقة هذا الموجود وطبيعته الأصيلة.
وإذا كان الملائكة قد أبدوا تشاؤمهم من طبيعة الإنسان، فلا عجب من تشاؤم بعض المتفكرين!.
* مذهب المتفائلين
يرى الفلاسفة المتفائلون نقيض النظرة الأولى تماماً، فطبيعة البشر خير وحق والإنسان بطبيعته وفطرته يدعو إلى الصلاح والعدل والخير، وعندما يسأل هؤلاء لماذا يظلم الإنسان ويفسد في الأرض إذاً؟ يجيبون: إن سبب انحراف البشرية عامل خارجي وأجنبي على طبيعة البشر. فحالات الشر والفساد والانحراف يحملها الإنسان من الخارج. المجتمع يفسد الإنسان.
جان جاك روسو، العالم المعروف، يذهب هذا المذهب، وفي كتابه الشهير "إميل" يصوّر الإنسان الطبيعي، الإنسان الموجود في الطبيعة الحرة غير المرتبطة بالمجتمع البشري، يصوّره على أنه سليم وطاهر. أما الشرور والمفاسد والمساوئء فتُحمل إليه من قبل المجتمع البشري، ولذلك فإن روسو ينظر إلى المجتمع والحياة نظرة تشاؤمية. فكلما كان الإنسان أقرب إلى الطبيعة كان أقرب إلى الصلاح، أما الحضارة الحديثة ليست شيئاً حسناً لأنها تبعد الإنسان عن الطبيعة، وكلما يبعد الإنسان عن الطبيعة أكثر يفسد أكثر.
نظرية روسو هذه تشبه في بعض ملامحها نظرية "الفطرة" الواردة في الأحاديث الشريفة. فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
الانحراف إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية من باب المثال، والأبوان عنصران أساسيان من عناصر المجتمع البشري كنموذج عن العوامل الاجتماعية التي تحرف الإنسان عن فطرته السليمة.
إذاً، جميع الناس ذوو فطرة سليمة ويميلون بطبيعتهم إلى الحق والعدل والخير، أما الانحرافات، الشرور، الخدع والأحاييل، المظالم والخيانات وجميع أنواع الشرور والفساد تحمل على الإنسان من الخارج، وبتعبير الفلاسفة حركة الإنسان على أساس العلل الطبيعية، سواء النفسية أو الديناميكية، هي حركة باتجاه الصراط المستقيم، ولكن على أثر التغيرات العرضية والخارجية، الميكانيكية والنفسية، يتجه الإنسان نحو الانحراف والفساد.
* مذهب الماركسيين
هناك نمط جديد تطرحه الماركسية ملخصه أن النظرة الماركسية للطبيعة وماضيها تشاؤمية، لكنها تنظر بتفاؤل كبير لمستقبل الإنسان والمجتمع البشري. الإنسان بنفسه، حسب الماركسية، مجرد من الفطرة والغريزة، فلا هو يميل بفطرته وطبيعته إلى الخير ولا إلى الشر، المجتمع هو الذي يعطي الإنسان الغريزة والفطرة. كل ما لدى الإنسان من المجتمع، والإنسان بنفسه مادة خامية وظرف خالٍ يمتلىء من الخارج. وبعبارة أخرى الإنسان فاقد الشخصية، سواء كانت بالفعل أو بالقوة، ثم يكتسب شخصيته على أثر الاتصال بالعوامل الاجتماعية، وبشكل اخص العوامل الاقتصادية منها.
الإنسان في هذه النظرية أشبه بشريط كاسيت يحكي كل ما يُسجل فيه، ولا يوجد أي تأثير بالنسبة لنفس الشريط. فإن سجِّل عليه القرآن يحكي القرآن وإن سجل شعر يحكي الشعر وهكذا... فالإنسان في حقيقته وأصل ذاته لا يملك طبيعة خاصة، حسنةً كانت أم سيئة، ثم تأتيه الطبيعة من خلال الارتباط بالعوامل الاجتماعية، وهذه العوامل هي التي تصنع الافراد صالحين أو طالحين.
* مذهب الإسلام
من وجهة نظر الإسلام، الإنسان في بداية وجوده لا يمتلك الشخصية الإنسانية بالفعل، ولكن بالقوة، أي أن مجموعة الرؤى والميول التي تعبر عن الشخصية الإنسانية تكون مغروسة في حقيقة الإنسان ومكنونة في أعماق فطرته وطبيعته على نحو استعدادات وقابليات. فالإنسان ليس مادة خامية ولا ظرفاً خالياً يأخذ ويتأثر بالخارج فقط، بل هو مثل بذرة شجرة لديها استعدادات خاصة لتنمو وتكبر وتستحيل نوعاً خاصاً من الثمر والورق.. كذلك الإنسان لديه استعدادات خاصة مكنونة في طينته، وحاجة الإنسان للعوامل الخارجية مثل حاجة البذرة إلى الماء والتراب والنور والحرارة، فبمساعدة العوامل الخارجية يخرج كل ما كان موجوداً بالقوة في أعماقه ويصبح موجوداً بالفعل.
حركة الإنسان نحو الكمالات هي نوع من الحركة الديناميكية وليس من نوع الحركة الميكانيكية. فالإنسان يجب أن يخضع للتربية وليس للصناعة كسائر المواد الصناعية.
من خلال هذه الرؤية، يعتبر بعض علماء النفس أن الإنسان مركب من سلسلة غرائز حيوانية مشتركة بين الإنسان والحيوان. وهناك سلسلة أخرى من الغرائز خاصة بالإنسان فقط وهي ما يعبر عنه بالأبعاد الأربعة: بعد المعرفة، البعد الديني، البعد الأخلاقي وحب الجمال.
كانت هذه نظرة سريعة في مجمل الآراء والمذاهب حول طبيعة البشر، وإن سمحت لنا الظروف وأذن الله في ذلك فقد نتحدث عنها بشيء من التفصيل لاحقاً ﴿وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب﴾.