الشيخ علي حسن خازم
يوجد نمط من الناس يعيش حالة التشاؤم بشكل دائم، يقابله نمط متفائل دائماً، فيما نمط ثالث يبحث عن مصدر لإيجاد باعث على التفاؤل أو التشاؤم في ما سيقدم عليه.
* من مظاهر التشاؤم والتفاؤل
التشاؤم هو الإحساس بأنّ القادم من الأحداث سيّئ ومؤذٍ، بناء على حصول أمر ما ينذر بذلك، وهو من الاعتقادات التي سجّل القرآن الكريم أقدم مظاهرها بقوله تعالى حكايةً عن أهل أنطاكية كما نقله الطبري في تفسيره: ﴿قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ (يس: 19)، وقوله تعالى عن ثمود: ﴿قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ﴾ (النمل: 47)، وكذلك عن قوم فرعون: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 131)، ونختم بذكر قريش وتطيّرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ﴾ (النساء: 78). فقد حصل الاعتقاد عند أهل القرية وعند ثمود وعند المصريين والقرشيين أنّ قيام الرسل بالدعوة إلى التوحيد سيكون له آثار سيئة على معيشتهم، ودفْعُ الشؤم وهو النحس لن يكون إلا بالرجم والقتل والتعذيب.
ومن مظاهر التفاؤل التي سجّلها القرآن الكريم قوله تعالى على لسان الرجل الذي ذهب ليستقي للقافلة: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى? هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ (يوسف: 19)، فإنّه قد عدَّ التقاط يوسف بشارة بنجاح تجارتهم في مصر.
و"الطِّيَرَة" هي التعبير العربيّ عن الإحساس بالشؤم من فِعْلٍ عارض، وهو نموذج يقابله النموذج الذي يفتّش عن مصدر يدلّه على ما يبعث على التفاؤل أو التشاؤم. وقد استخدم العرب في هذا الأخير ما اصطلحوا عليه بالتعابير الآتية: (الزَّجْرُ، والعِيَافَةُ، والطَّرْقُ، والخَطُّ)(1).
* موروثات شعبيّة
بهذا المدخل نستطيع التمييز بين أنواع أسباب التشاؤم وآثارها وتسمياتها. وكلامي في هذه المقالة سيكون عن بعض الأحداث التي تُنذر بالشؤم وفْقاً للموروث الشعبيّ وما تنتجه في نفس مَن يعتقد ذلك وحُكمهما (الاعتقاد والمعتقد)، دون الكلام عمّا ورد في النصوص الدينيّة الإسلاميّة من دلالات على النحس والشؤم، لأنّه يطول.
1- المقصّ المفتوح والحذاء المقلوب يدلان على قرب وقوع خصام داخل المنزل.
2- فتح المظلّة داخل المنزل يجلب النحس كما المرور من تحت سلّم مفتوح.
3- استمرار الكلب في نباحه ليلاً يدلّ على قرب وقوع مصيبة.
4- الفراشة السوداء في المنزل تدلّ على وفاة أحد الأقارب.
5- الاختلاجات، كرفّة العين وطنين الأذن وحكّ الكفّ، فإنّها تُربط بحصول أمور كسماع خبر سيّئ أو أن ثمّة من يذكر صاحبها بسوء، أو الحصول على مال أو دفْعه أو عودة غائب.
وما إليها من عناوين يطول ذكرها هي نماذج حديثة "للطِّيَرَة" مع بعض النماذج القديمة السارية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية كخسوف القمر.
* منشأ تاريخيّ أو جهْل علميّ؟
لكل الأحداث الدالة على الشؤم والنحس في ثقافتنا الشعبية منشأ تاريخيّ أو جهل بتفسيرها العلميّ يبطلها عند معرفتنا به. ومما يبطلها أيضاً البحث عن تلازمها مع دلالاتها إحصائياً. فالمسألة هنا أنّ الذي يروى هو ما يُصَدّقها لا ما ينفيها، لأنّ الناس بطبعها مشغوفة برواية الغريب لا العادي من الأحداث، ولو راقب الإنسان نفسه لوجد أنّ هذا التلازم ينخرم في موارد أكثر ممّا يتّفق من الأحداث.
ولنأخذ بعض الأمثلة على ما ذكرته:
1- خسوف القمر: تلازم الخسوف مع مصيبة عامة ستحلّ بالبلاد، ولا يكون دفعها إلّا بالطَّرق على الطناجر والأواني المعدنيّة. وأصلها أنّ الخواجة نصير الدين الطوسيّ حاول إقناع هولاكو، المولع بالتنجيم، بحاجته إليه كعالم فلك بعد القتل العام الذي مارسه في قلاع الإسماعيليين عندما اجتاحها، ولكنّ هولاكو طلب منه دليلاً على علمه بالفلك ومواقع النجوم، فأخبره الخواجة بأن خسوفاً للقمر سيحدث في ليلة عيّنها له، فأبقاه حيّاً لاعتقاده بأنّه سيعينه في معرفة الطالع بشرط حصول الخسوف ومشاهدته له. وفي ليلة الخسوف جاء الخواجة إلى هولاكو ولكنّ الجند منعوه من الدخول عليه؛ لأنه نائم، وكلّما حاول أن يوقظوه لم يفعلوا حتى تفتّق ذهنه عن حيلة وقد بدأ القمر بالخسوف حيث أقنعهم بأنّهم إنْ لم يقرعوا على خوذهم بسيوفهم سيبتلع الحوت القمر ولن يعود إلى يوم القيامة. أفاق هولاكو على صوت قرع المعادن وشاهد الخسوف مع "النصير". عرف الناس لاحقاً التفسير العلميّ للخسوف، لكنّ القرع على الخوذ -الذي تحوّل إلى قرع على الطناجر- وكذلك الطلب وقول "دشِّر قمرنا يا حوت" بقيا واستمرّا.
2- العيون الزرق والأسنان الفِرق: الخوف من صاحب العيون الزرق، خاصةً إذا كانت أسنانه مفروقة، فإنّ أصله أنّ العرب كان لا يدخل عليهم من هو كذلك إلّا الروميّ فيسمّونه بالرجل الأزرق، وكانوا يحذرونه خوفاً من أن يكون جاسوساً عدوّاً.
3- البوم: لم يُرَ البوم في بلاد العرب إلّا في الخرائب، فتشكّلت عند الناس عقيدة أنّ رؤيته تجلب الخراب، بينما يعتبره أقوام آخرون بشارة خير.
* البحث عن التفاؤل بعد التشاؤم
إنّ استقرار الحالة النفسية على الاعتقاد بالدلالة التشاؤمية سيؤدّي لاحقاً إلى الحالة الثانية، وهي حالة التفتيش عن مبعث للتفاؤل أو التشاؤم، فتكون النتيجة حالة مَرَضِيَّة نفسياً وروحياً تدفع صاحبها إلى الكُهَّان والمشعوذين أو إلى أن يصير بنفسه كاهناً مشعوذاً.
ينبغي التفريق بين الشعور النفسانيّ وبين الاعتقاد بالتشاؤم، فالشعور أمر عارض وفي مقام العلاج لا يواجَه بالتصديق أو التكذيب، بل يعالَج باستخدام المنطق، وبعرضه على العقل الذي يدل على عدم اطّراد التلازم المُدَّعى بين الأحداث، كما مرّ، فضلاً عن وجود تفسير مختلف. وأمَّا الاعتقاد فيعالَج بعرضه على العقيدة والسؤال هل له أصل صحيح فيها أو لا.
إنّ الحُكم بدلالة حدثٍ ما على حصول الشرّ يستوجب دليلاً علمياً على التأثير المُدَّعى بنحو قانون العِلِّية، وإلا فهو كِهانَة وتَخَرُّص ووَهْم يلزم المعتقِد به شُبهة ممارسة "الكِهانِة المُحَرَّمة".
وتبقى الاستعاذة بالله من الشيطان ووسوساته والتوكّل على الله وإرجاع الأمر إليه هي الوظائف المطلوبة في مثل هذه الأحوال.
(1) الزَّجْرُ: هو إثارة الطير، أو الظبي، أو الوحش الجاثم لينظر إلى أي جهة يطير أو يأخذ، وأصله أن يرمي الجاثم منها بحصاة ويصيح, فإن ذهبت يمنة تفاءل وإن ذهبت يسرة تشاءم.
- والعِيَافَة: زَجْرُ الطَّيْرِ خاصة "وعَافَ الطَّيْر عِيافَة: زجرها"، وهو أن يَرَى طائراً أو غراباً فَيَتَطَيَّر، قال ابن الأثير: "العِيافة زَجْرُ الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرّها، وهو من عادة العرب كثيراً".
- والطَّرْقُ: قال ابن الأثير: "الطَّرْقُ: الضَّرْب بالحصى الذي يفعله النساء، وقيل هو الخَطُّ في الرَّمْل". وبهذا فسره الخطابي شارح سنن أبي داود فقال: "وأما الطَّرْقُ فإنه الضرب بالحصى ومنه قول لبيد:
لعمرك ما تدري الطَّوَارِقُ بالحَصَى ولا زاجِرات الطَّيْرِ ما اللهُ صانِعُ
- والخَطُّ: وهو الذي يخُطُّه المتكهن بإصبعه، أو بعود في الرمل أو التراب، وما يجري مجرى هذا، يدعي به علم ما يكون قبل كونه.