الشيخ محمّد زراقط(*)
التفاؤل والتشاؤم حالتان متقابلتان، معروفتان بالتجربة الوجدانيّة للشعوب والجماعات وللأفراد. وعلى الرغم من ذلك، فقد اختُلف في تعريفهما من الناحية العلميّة، بين تعريف موسّع يشمل كلّ توقّع للخير أو الشرّ، وبين ما يُضيّق تعريفهما ويُخرج عدداً من حالات التوقّع من دائرة هذين الاسمين. ولا يهمّنا في هذه المقالة الموجزة الخوض في هذه النقاشات، على الرغم من أهميّتها، لكن سنطلّ على أبرز مناشئهما، وما هو رأي الدين فيهما.
* منشأ التفاؤل والتشاؤم
ثمّة تفسيرات كثيرة ومبرّرات للتفاؤل والتشاؤم، وما يعنينا هو حالتان منهما:
الأولى: عندما يكون التشاؤم والتفاؤل سمة من سمات الشخصيّة الفرديّة أو الاجتماعيّة. فالحالة الطبيعيّة للإنسان تقتضي توقّع بعض النتائج، عندما تتوفّر المؤشّرات الكافية المفضية إليها؛ وذلك أنّ توقّع الخير أو الشر في حالات محدّدة لها مبرّراتها، ليس مشكلةً تستحقّ البحث عن حلٍّ لها. وما يستحقّ التوقّف عنده، هو تحوّل هذا التوقّع إلى سمة من سمات الشخصيّة تغلب على الفرد أو المجتمع، فتجعله يتوقّع الخير دائماً مهما كانت وجهة المؤشّرات (تفاؤل)، أو تجعله يتوقّع الشرّ دائماً مهما كانت المؤشّرات (تشاؤم).
الثانية: عندما يكون التشاؤم والتفاؤل نتيجة الاعتماد على مؤشّرات غير منطقيّة؛ لبناء توقّعات الإنسان عليها. وهذه الحالة تختلف من شخص إلى آخر، ومن جماعة بشريّة إلى جماعة أخرى. فطائرا البوم والغراب مثلاً، نذيرا شؤم عند بعض الشعوب، والرقم (13) يثير التشاؤم عند آخرين، بينما الرقم (4) هو عدد منحوس عند جماعة بشريّة أخرى، ويوم الأربعاء يوم نحس عند بعض الشعوب، ورؤية الغنم عند الصباح مثيرٌ للتفاؤل في بعض العادات القديمة، بينما رؤية الماعز والقطّ الأسود مصدر شؤم ونذير شرّ، والنماذج كثيرةٌ ومتنوّعة.
في ضوء ما سبق، يتبيّن أنّ حصول التفاؤل والتشاؤم أحياناً ليس أمراً اختياريّاً، وإنما ينتج كلٌّ منهما عن مقدّمات لا تدخل في دائرة الاختيار؛ فالحالة الأولى هي سمة من سمات الشخصيّة، يصعب عادةً التخلّص منها دون علاج سلوكيّ، وتدريب يحتاج إلى فترة طويلة. وفي الحالة الثانية، يكون التفاؤل ومقابله التشاؤم نتيجة التربية والتلقين الاجتماعيّ. وفي هذه الحالة، قد تمضي على الإنسان فترة طويلة حتّى يكتشف خطأ هذه المعتقدات، وعدم صحّة بناء المواقف عليها. ومن هنا، تظهر الحاجة إلى الكشف عن الرؤية الإسلاميّة تُجاه هذين الأمرين.
* الموقف الدينيّ من التشاؤم
إنّ بعض حالات التشاؤم -كما أشرنا- تدخل في دائرة الاختيار، إمّا مباشرة وإمّا بالواسطة من خلال التربية المعاكسة التي ولّدت هذه الحالة. ومن هنا، نجد في عدد من النصوص الدينيّة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ما يُربّي المسلم على عدم التشاؤم، منها:
أوّلاً: التربية الإسلاميّة على التفاؤل
يدعو كثير من التعاليم الإسلامية إلى تربية الإنسان على التفاؤل، بأساليب متعدّدة وأشكال مختلفة، منها:
1- الثقة وحُسن الظنّ بالله: يدعو الإسلام الإنسان إلى تعميق ثقته بالله وحُسن الظنّ به بأشكال مختلفة، تبعاً للصفات التي يتّصف بها سبحانه وتعالى. وقد ورد في القرآن الكريم والسنّة الشريفة الكثير من النصوص التي تأمر بهاتين الخصلتين، والإيمان بأنّ الله سيختار الأفضل للإنسان على الدوام. ففي القرآن الكريم، يتوعدّ الله المنافقين والمشركين بالعذاب الشديد، ثمّ يذكر ظنّ السوء بالله تعالى كسمة من سماتهم فيقول: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ (الفتح: 6). وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "حُسنُ الظَّنِّ بِاللهِ مِن عِبادةِ الله"(1).
2- مفهوم البلاء: ربّى الإسلام المؤمنين على النظر إلى منغّصات الحياة التي لا بدّ منها، بعين تسعى إلى الكشف عمّا وراء آلامها ومآسيها، من حكمة وأهداف سامية. والاسم الأخلاقي التربويّ الذي يُستخدم للتعبير عن الأحداث المؤلمة في الحياة هو اسم "البلاء": ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155). ومن الطبيعي أنّ وقع هذه الأحداث المؤلمة على الإنسان يرتبط بطبيعة النظرة إليها.
3- العُسر واقترانه باليُسر: كرّر الله تعالى التعبير عن الاقتران بين العسر واليسر مرّتين في سورة واحدة، فقال: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ (الشرح: 5-6). وللآية دلالات واضحة لا تخفى على القارئ الكريم. وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ (الطلاق: 2).
4- تقديم التجارب: عرض لنا القرآن الكريم حالات عدّة لأمم وجماعات إنسانيّة أو أفراد، واجهوا أزمة وجوديّة، ثمّ دبّر الله أمورهم بطريقة من الطرق التي لم تكن في الحسبان. وأحد الأهداف من عرض هذه التجارب هو تفهيم الإنسان أنّ التجارب المُرّة ليست دائمة، من جهة، وليست المرارة هي البُعد الوحيد في التجربة أو في الحياة ككلّ من جهة أخرى. والأمثلة كثيرة، نذكر منها: قصّة النبيّ موسى عليه السلام عندما أُمِرت أمّه بإلقائه في الماء(2)، وتجربة النبيّ إبراهيم عليه السلام وأسرته عندما أسكنها بوادٍ غير ذي زرع(3)، وأُمر بعد ذلك بذبح ابنه، ثمّ فرّج الله همّه وتبدّلت الأحوال(4)، وكذلك قصّة النبيّ أيّوب عليه السلام (5)، وصولاً إلى بعض الأحداث التي مرّت في حياة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (6).
5- مفهوم التوكّل: التوكّل على الله مفهوم أو قيمة من القيم الأخلاقية الإسلامية، التي ينبغي إذا فهمها الإنسان حقّ فهمها، أن تنعكس على حياته بأشكال مختلفة وميادين عدّة، منها ميدان التحلّي بروحيّة التفاؤل، فعندما يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق: 3)، فإنّ هذا يعني على الأقلّ الميل إلى النظرة الإيجابيّة في كلّ عملٍ يُقدم عليه الإنسان، ويصبّ هذا في الجهة المعاكسة لجهة التشاؤم. فالمزارع عندما يضع البذور في الأرض، يتوكّل على الله، وينبغي أن يتوقّع جني المحصول المناسب.
6- حُسن الظنّ بالناس: التجارب السيّئة في العلاقات الاجتماعيّة واحدة من أسباب التشاؤم عموماً. وفي هذا المجال، يربّي الإسلام المؤمنين بها على حُسن الظنّ بالآخرين، وعدم تعميم التجارب السيّئة التي مرّوا بها على سائر تجاربهم. وورد هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ (الحجرات: 12)، وورد أيضاً في عدد من الأحاديث منها المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يَغلِبَنَّ عَلَيك سُوء الظَّنِّ، فإِنَّهُ لا يَدَعُ بَينَك وَبَينَ خَليلٍ صُلحاً"(7).
ثانياً: مواجهة التشاؤم في حالات محدّدة
إلى جانب التربية العامّة على التفاؤل كما تقدّم، تعرّض الإسلام إلى بعض العادات التشاؤميّة، وعمل على محاربتها والقضاء عليها، وهي متعدّدة، نكتفي بالإشارة إلى بعضها:
1- نحوسة الأيّام: كان العرب في الجاهليّة كسائر الأمم، يعتقدون أنّ بعض الأيّام أو الأشهر هي أوقات منحوسة، ترتفع فيها احتمالات وقوع الشرّ. وقد دعا الإسلام إلى التعامل مع الأيّام على أنّها مجرّد أوقات لأفعالنا وليست وعاءً دائماً للخير أو الشرّ. وورد في هذا المجال عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لا تعادوا الأيّام فتعاديكم"(8). أحد المعاني التي تُستفاد من هذا الحديث الدعوة إلى عدم التنفّر من يوم من الأيّام، بذريعة أنّه يوم شؤم، كي لا يصدق ظنّ الإنسان فيه. ولا يعني هذا بالضرورة أنّ يكون اليوم هو الفاعل، بل يُحتمل تفسير الحديث أن اعتقاد الإنسان أنّ هذا اليوم منحوس، سوف يحرمه من الاستفادة منه؛ وبالتالي، يتحوّل هذا اليوم إلى يوم نحس على الإنسان على الصعيد النفسيّ، ونتيجة نظرته إليه. وتجدر الإشارة هنا إلى النهي الوارد عن بعض الأعمال في بعض الأوقات والذي له تفسير يستحقّ المعالجة في محلٍّ آخر.
2- التطيّر: التطيّر من العادات التي كان يمارسها العرب في الجاهليّة، بحيث كانوا إذا عزم أحدهم على سفر أو ما شابه، خرج إلى البريّة للعثور على عشٍّ لطائر، فيهيج الطائر حتّى يفرّ من عشه، فإذا طار إلى جهة اليمين تفاءل به، وإذا طار إلى جهة اليسار تشاءم. وقد نهى الإسلام عن هذه العادة وأبطلها، وورد في عدد من الأحاديث نفي الطيرة والتطيّر. ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا طيرة"(9)، وورد عنه أيضاً قوله: "كفّارة الطيرة التوكّل"(10).
3- سدّ عدد من أبواب التشاؤم: مضافاً إلى ما تقدّم، فقد عمل الإسلام على خطين آخرين، هما سدّ بعض أبواب التشاؤم التي يمكن أن يفتحها الإنسان على نفسه، ومعالجة حالة التشاؤم بعلاجات موضعيّة. ومن النوع الأوّل، سدّ أبواب الرجم بالغيب، ودعوى بعض الناس أنّهم يطّلعون على الأحداث قبل وقوعها، وأحد هذه الأبواب التنجيم. وقد ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لمنجّم نصحه بعدم الخروج في أحد حروبه: "أَتَزْعَمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ؟! وَتُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ؟! فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الاسْتِعَانَةِ بِاللهِ فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ..."(11). ومن النوع الثاني، ما ورد حول إقدام الإنسان على أمرٍ يتهيّبه: "إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ"(12). ومن هذا الباب أيضاً، ما ورد في الصدقة لدفع البلاء عند ظهور بعض مؤشّراته، والنصوص في هذا الباب متعدّدة. ومن هذا الباب أيضاً الدعوة إلى عدم العمل بسوء الظنّ لمحاربته: "مَخرَجُ المُؤمِنِ مِنْ سُوء الظَّنِّ أَنْ لا يُحقِّقَهُ"(13).
* نحو الاعتدال والتوازن
إنّ أهمّ السمات التي يتميّز بها الموقف الإسلاميّ من خصلتي التفاؤل والتشاؤم، هي الواقعيّة والتوازن. فعلى الرغم من تحريض الإسلام على الاتّسام بسمة التفاؤل، إلّا أنّه لم يدعُ المؤمنين إلى تحويل هذه السمة إلى سمة دائمة، مهما كانت الظروف والأوضاع، بل دعا المؤمنين إلى التوازن في هذا المجال، فأبقى الباب موارباً للإذن الشرعيّ بالنظرة السلبيّة والتشاؤم في بعض الحالات، واعترف للإنسان بحقّه في الاحتياط تُجاه الظواهر، وفي الحالات التي يكون التشاؤم فيها بمعنى الحذر والاحتياط واليقظة هو السمة العقلانيّة المطلوبة. وفي هذا المجال، نصوص كثيرة نكتفي بالإشارة السريعة إلى أهمّها. فقد ورد: "لا يُلسع/ يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين"(14). ودعا الله المؤمنين إلى توثيق معاملاتهم الماليّة على الرغم من فتح باب الثقة والاعتماد عليها بين المؤمنين(15)، ودعا المؤمنين إلى الاحتياط في حُسن الظنّ عندما تكون الحالة الغالبة على أهل العصر الفساد.
(*) أستاذ في الحوزة العلمية، ومدير مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ.
(1) بحار الأنوار، المجلسي، ج 77، ص 166.
(2) سورة القصص: الآية 13.
(3) سورة إبراهيم: الآية 37.
(4) سورة فاطر: الآية 102 وما بعدها.
(5) سورة ص: الآيات 41-44.
(6) سورة التوبة: الآية 26.
(7) تحف العقول، الحرّاني، ص 77.
(8) الخصال، الصدوق، ص 395.
(9) هداية الأمة إلى أحكام الأئمّة، الحرّ العاملي، ج 5، ص 91.
(10) (م. ن.).
(11) نهج البلاغة، الخطبة رقم 79.
(12) (م. ن.)، الحكمة رقم 179.
(13) بحار الأنوار، (م. س.)، ج 75، ص 21.
(14) انظر: الوافي، الفيض الكاشاني، ج 26، ص 164.
(15) انظر: سورة البقرة: الآيتان 282-283.