* المودة والانسياق
يروى عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قوله: "المرء مع من أحب".
المحبة تبعث على الألفة، وتبعث على الطاعة أيضاً، لفقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى ذلك بقوله: "... إن الأرواح تلتقي فتشم وتتعارف فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف..".
ومما تحدث عنه القرآن الكريم في ذات السياق قوله تبارك وتعالى في سورة المجادلة آية 22: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ "المجادلة/ 20".
وإذا أردنا الوقوف عند سر ذلك، فلا بد لنا من اعتبار الحب الصادق والتام إكسير الولاء، وليس الولاء إلا الموالاة، والمتابعة والتأسي والتقليد والعشق للمحبوب، وعشق كل لوازمه الإنسانية والنفسانية، ومن أقواله وأفعاله، وما يرضى عنه. فإذا أردنا أن نصنع إنساناً فإنه من المستحيل فعل شيء من دون الحب.
* امنحي طفلك هذا الحب
لقد أشرنا في الحلقة الماضية إلى تفوق حق الأم على الأب بدرجتين واستفدنا هناك أن مرجع ذلك هو الحب والعطف الذي يتبادله الطفل مع أمه بصورة كبيرة وعالية، وهذا هو سر ذوبان الطفل بأمه، ولذلك فهي تمثل مصدراً تربوياً لا يمكن الاستغناء عنه أبداً وخاصة في المرحلة الأولى من دون أن نتنكر لدور الأب الإشرافي والتوجيهي ونستطيع اعتبار المحبة قاعدة متينة في التربية والطاعة، فإذا شئت أن تطاع فكن محبوباً، وإذا شئت أن يكون ولدك إنساناً مطاعاً فما عليك إلا أن تجعله محبوباً.
وليس في سبيل إلى ذلك إلا أن تقوم الأم بمنح هذا الحب إلى طفلها فالحب ينبت الحب، ولا بد للأم في ذلك من الوعي والاهتمام الجاد، إذ ثمة فرق بين العواطف الهامشية والعفوية والتي قد يكتنفها الجهل، والتشدد الظالم، وبين ذلك الحب الواعي والموجه من قبل أم متفهمة لدورها، إذ ينبغي دائماً أن يكون الحب إلى جانب الوعي، والتغذية التربوية الصحيحة.
فالحب يؤمن مناخاً صحيحاً للتربية، ويقوم بتأمين جزء هام من حاجاتها فلذائذ الطاعة والتقليد ليس لها وجود من دون هذا الحب، إلا إذا كان هذا الحب قاصراً، فإن آثاره التربوية سوف تكون سلبية.
وما من شك بأن كل الآباء يطمعون بأبناء أفضل منهم، ولن يحصل ذلك في جو الإهمال والعواطف الجوفاء، فالتربية مسؤولية والأسرة ليست ملهى ومرتعاً وإنما هي مؤسسة إلهية عظيمة لبناء الأجيال الصالحة. وعلى الأم أن تحمل هذه المسؤولية لتعلّم ولدها على محاسن الأخلاق ضمن أجواء ودودة وحميمة.
* امنحي طفلك هذه النجابة
لقد أصبح من المعلوم لدينا جميعاً كم للمحبة من أهمية أساسية في التربية، وباعتبار أن المولود يترعرع لمدة طويلة في حضن أمه، قد تصل إلى عامين كاملين، كما يحض القرآن الكريم - فإن الأم هي صاحبة هذا الدور الأساسي دون غيرها، ومن هنا نجد أن الرسول صلى الله عليه و آله وسلم يحذر من الزواج من الفتاة السيئة في منبتها، أو خلقها، أو عقلها، ومن هنا أيضاً يأتي دور المرضعة، وأهمية اختيار المرضعة وهو ما أشرنا إليه وإلى دوره في الغذاء العاطفي والتربوي، وهذا ما يفسر شأن حليمة السعدية مرضعة ومربية الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، ويفسر لنا أيضاً سر تحريم النبي موسى عليه السلام على المراضع غير أمه.
إن الأم النجيبة ستربي أولادها كذلك، وسوف تغذيهم بهذه النجابة من خلال سلوكها ومعاملتها، ومن خلال حليبها، ومن خلال أهلها أيضاً، حيث يتوجه الطفل نحو كل من يرتبط بأمه من جهة الأبوين، أو الأخوة، وإن لهذه العلاقات كلها أثراً كبيراً لا ريب في التربية، فالطفل يرث العادات والتقاليد والأفكار من الأم ومحيطها الخاص أكثر من الأب ومحيطه، وليس ذلك إلا يفعل هذه العاطفة والمحبة، سيما في مرحلة الأعوام السبعة الأولى من عمر الطفل.
وهناك نمط من الآباء يمنحون محيطهم الاجتماعي وأقرانهم من الحب والعناية والتأثير التربوي أكثر مما يمنحون ذلك لأطفالهم. إن هؤلاء وإن كانوا يتحلون بمزايا النجابة إلا أنه سوف تظهر لدى أطفالهم من جراء ذلك تشوهات وردات فعل تربوية كبيرة نتيجة لعدم التوازن بين الخارج وداخل الأسرة.
* ورائيات الأمومة
لعل بقاء الطفل تسعة أشهر في رحم أمه - وهي تحمله وهناً على وهن - كافية لجعل هذا الترابط العاطفي بين الأم وطفلها يبلغ أبعد مداه، حيث تكون فيه الوراثيات الجينية للأم أكبر تأثيراً على الطفل في تكوين ملامحه الجسدية والنفسية، ومن هنا فقد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسلم:
"تخيّروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن"، وهذا التشابه إنما هو نتيجة - بدرجة كبيرة - للحب، فيخصب وينمو في مرحلة انعقاد النطفة والجنين، وحيث يكون الانسياق رديفاً للحب، وتبعاً لحب المرأة فقد يتشكل الانسياق بصورة جينات وراثية تؤثر بصورة عجيبة بالتوجيه الخلقي للنفس، "فتبارك اللَّه أحسن الخالقين".
ومما يروى في هذا الصدد أن أمير المؤمنين عليه السلام وعندما أراد الزواج بعد وفاة زوجته فاطمة عليها السلام، طلب من جاريته أن تبحث له عن امرأة تلد له مولوداً شجاعاً كريم الطباع، فكانت أم البنين، وكان مولودها أباً الفضل العباس عليهما السلام، ولم يكن ليحصل ذلك من أمير المؤمنين إلا لذلك السر، مع العلم أن أمور التربية لم تكن محل دراسة في ذلك الزمان.
وبالخلاصة: فإن الأم تمتلك كل تلك العناصر الضرورية لتقوم بدور تربوي ناجح، فهي المحبوبة التي يمكن أن تطاع لو عرفت دورها وآمنت به، وقامت بتعهده كما ينبغي القيام.
وهي التي تمتلك رصيداً كبيراً من التأثير، بالإضافة لوشائج القربى التي تربط الأطفال بأخوة الأم وآبائها، بما لها من المدخلية التربوية البارزة إلى جانب دور الأم.
واستطراداً فإن هذه الوشائج الرحمية تشكل حماية للأم وأطفالها من الانفصال من الشرود حيث تشتد العلاقة العاطفية لجهة الأم أكثر وهي أيضاً قوة لها يمكن أن توازن بها ضعفها أمام زوجها، بحيث تتكافأ الزوجة مع زوجها، حيث من دون هذا لتوازن لا مجال لحصول التكامل، وعندما تفشل الحياة الزوجية، فالسبب سنجده دائماً في عدم الالتفات إلى السنن الطبيعية، والمتظافرة مع تلك السنن التشريعية.
وهي أيضاً أي الأم - تشكل عاملاً غالباً في تكوين المؤثرات الوراثية سواء على المستوى الجسدي أو النفسي، وهذا هو ثروة إلهية جعلها اللَّه سبحانه لها وبيدها، إذ لولا ذلك لكانت الأم في الأعم الأغلب كارهة لأولادها، ونحن شاهدنا بعض هذه النماذج الشاذة، والتي تسبب بها الأبوان بذاتهما.
وإذا ما أدرك مجتمعنا الدور التربوي للأم، والذي أصبح شيئاً فشيئاً هامشياً جداً، بينما أخذ اهتمام المرأة يتزايد في ميدان الأناقة والدعاية والابتذال واللهو، وصناعة الطعام وترتيب المنزل، وليس ذلك إنكاراً لأهمية بعض ما ذكرت بل إنكاراً لأولويتها على الهم التربوي.
فإذا أرادت أمتنا أن تغير حالها وتحسن بناء أطفالها فما عليها إلا أن تعيد المرأة إلى أن تأخذ دورها الإلهي العظيم، من أجل بناء أسرة سعيدة في الدنيا والآخرة، إذ ليس بريق الحضارة الغربية ودفاعها عن حرية المرأة إلا وهماً زائفاً تسبب بكل ويلاتها وعذاباتها وخدش رقتها وقدسيتها وباعها للشيطان، حيث وضعها أمام لائحة من الاهتمامات التافهة التي لا تنتهي، والتي قد تسمى كمالية، وما هي من الكمال في شيء.
فالمرأة المؤمنة لا تقلد إلا أنبياءها وأوصياءهم عليهم السلام ولا تقلد إلا سادتها أمثال، الزهراء ومريم، وزينب عليهنّ السلام.
فللغرب نموذجه ولنا نموذجنا لهم ملذاتهم الدنيوية، ولنا ملذاتنا الأخروية، والأمومة أكثر من تضرر من هجمة الجهل أولاً والغرب ثانياً، فمن جميل ما قاله الشاعر أحمد شوقي.
الأم مدرسة إذا أعددتها |
أعددت شعباً طيب الأعراق |