آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
في تتمة حديث أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في صِفة أبغض الخلائق إلى الله، ممن يتصدّى للحكم بين الأمة وهو ليس أهلاً لذلك، "رَجُلانِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ الله إلى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبيلِ، مَشْغُوفٌ بِكَلامِ بِدْعَةٍ ودُعاءِ ضلالةٍ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ...". ذكرنا تفصيله في العدد السابق. ونكمل كلام الأمير عليه السلام عن الرجل الثاني، في هذا العدد:
"ورَجُلٌ قَمَشَ [جمع] جَهْلاً مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الأُمَّةِ، عادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ، عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاه أَشْبَاه النَّاسِ عَالِماً ولَيْسَ بِه"(1).
*مواقع ومسمّيات زائفة
المجموعة الثانية من أبغض الناس عند الله، همُ الذين جمعوا الآراء المجهولة والباطلة التي لا أساس لها. وهؤلاء الأشخاص لا مكانة لهم عند العلماء والمثقفين. لذا، فإنهم يتوجّهون نحو الجهّال من الناس ليبحثوا عن مواقع لهم في ظل ذاك الجهل، ويستفيدون من هذه المواقع الزائفة للوصول إلى المناصب الاجتماعية، وللرئاسة على الناس.
إنّ هذه المجموعة الضالّة والأنانية قد أخرجت نفسها وأتباعها من شعاع العلماء الصالحين ووجدت طريقها إلى ظلمات الفتن، يجولون في ساحة جهل الناس ليلقوا إليهم أفكارهم الباطلة ويحرّفوا أذهانهم. أما عوام الناس الجاهلون، فيُطلقون عليهم عنوان العلماء، مع أنهم لا نصيب لهم من العلم.
عَقد الهدنة: لم يتفق شارحو نهج البلاغة على تفسير عبارة "عَقْدِ الْهُدْنَةِ" الواردة في النص. أما المقصود من هذا الاصطلاح في الفقه فهو: "عقد الصلح"، وعدم الاعتداء بعد حرب.
وأما المعنى اللّغوي للعبارة فهو "السكون" و"الهدوء" حيث يتناسب هذا المعنى مع سياق الجملة.
*سمّاه أشباه الناس عالماً
ما تجدر الإشارة إليه هنا، أن المخاطَب بهذه العبارة ليس الأشخاص العاديّين؛ ممّن يهتمون بأنفسهم فقط، وإذا امتلكوا أفكاراً وعقائد فاسدة أو سلوكيّات منحرفة، لا تؤثر في الآخرين، ولا تساهم في ضلالهم، بل المخاطب بهذه العبارات هم المعروفون في المجتمع تحت عنوان "العلماء" ويتخذهم الناس أسوة وقدوة لهم حيث شرّعوا اقتباس أفكارهم وعقائدهم الصحيحة منهم. من الطبيعي في كل مجتمع أن يتوجّه الكثيرون نحو المتخصّصين وذلك لأن الجميع لا يدركون كافة الفنون والعلوم: الذي يمرض يتوجّه نحو الطبيب، والذي يريد بناء منزل يتوجّه نحو البنّاء... وهكذا فيما له علاقة بالدين إذ يتوجّه الناس الذين يرغبون بمعرفة تكاليفهم ووظائفهم الدينية نحو المتخصّصين في هذه الأمور.
*مسؤولية العلماء ثقيلة
وعلى هذا الأساس، فالمعروفون بين الناس أنهم علماء ومتخصّصون في الدين، يحملون مسؤوليّات ثقيلة. خصوصاً إذا ساهموا في هداية الآخرين، بواسطة كلامهم وسلوكهم، وشاركوا المهتدين في أعمال الخير وفي الثواب الذي لحق بهم نتيجة الهداية. فالشيخ الكليني والشيخ المفيد اللذان تركا آثاراً علمية قدمت ولقرون طويلة المعارف الإلهية القيّمة والخالصة، بحيث لو لم تكن آثارهما لأصبحت معرفة المعارف الدينية شديدة الصعوبة وفي بعض الحالات غير ممكنة، هذان العَلَمان شريكان في ثواب كل من اهتدى واستفاد من تلك الآثار ما دامت موجودة وما دامت تساهم في هداية الناس.
*ذم أصحاب الشبهات ومجدّدي السنن المنحرفة
إن الذين يساهمون في إيجاد الانحراف في الدين وإلقاء الشبهات بواسطة كتبهم ومقالاتهم وكلماتهم والذين ساهموا في انحراف الآخرين وروّجوا للسنن الباطلة، سيكونون شركاء في عقاب وعذاب الآخرين ما دام الآخرون يتأثّرون بهم.
*الشهرة ودورها في طغيان وانحراف الإنسان
يجب الالتفات إلى أن الإنسان ينحرف بالتدريج ويتطوّر فيه الانحراف والطغيان على أثر التساهل والوقوع في فخ الأهواء النفسانية. في البداية تلقى بذور الدوافع الفاسدة في قلب الإنسان، ثم تنمو هذه البذور شيئاً فشيئاً فتصل الأمور بالإنسان في مرحلة من المراحل إلى الكفر بالله.
من جملة العوامل التي تؤدي إلى انحراف الإنسان، طلب الشهرة والموقع. طبعاً هذه الخاصية ليست سلبية بحد ذاتها، بل السلبي هو سوء الاستفادة من هذه الخاصيّة النفسانيّة، فلو استخدم الميل والدافع بشكل صحيح، قد يكون سبباً في تعالي الإنسان في جوانب عديدة من حياته.
*يريدون علواً وفساداً
قد يسعى الطالب أو المحقّق للوصول إلى موقع ممتاز بين زملائه على أثر إرادة الشهرة فيه. وقد تتطور فيه الحالة فيبحث عن موقع اجتماعي في مدينته وقريته. وقد يتطور، فيصل به الأمد إلى إيجاد دين أو مذهب فاسد. لم تكن الثروة السبب الوحيد في إيجاد المذاهب والفرق المنحرفة، بل يؤدي طلب الشهرة إلى جانب عبادة المال وفي بعض الحالات طلب الشهرة بمفردها إلى وجود انحرافات كبيرة.
بعض الأشخاص يسعون نحو الموقع والشهرة من خلال صَرْف الأموال فيساهمون في إيجاد مذاهب منحرفة، وبعضهم الآخر لا يتورع عن ارتكاب القبائح للوصول إلى المناصب والمقامات كالوزارة أو رئاسة الجمهورية، على سبيل المثال. لذلك يجب الإشارة إلى أن طلب الشهرة والمنصب من جملة العوامل الأساسية في الانحراف والفساد. يقول الله تعالى في هذا الخصوص: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص: 83). وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾"(2).
*ويدّعون الألوهية
يتحدث القرآن الكريم عن أن الاستعلاء كان سبب انحراف وكفر فرعون ووصوله إلى مرحلة من الطغيان حيث أطلق على نفسه إله الناس: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 4). بعض الأشخاص المنحرفين، يستغلّون أحاسيس الناس العاديّين ليصلوا إلى الشهرة والمنصب. وعندما يدركون أن أفكارهم وادّعاءاتهم وجدت صدى لها بين الناس، يعرضون ادّعاءات جديدة ليجذبوا بأفكارهم المنحرفة المزيد من الأشخاص حتى يصل بهم الأمد إلى الحاجات الضرورية عند الناس. على سبيل المثال: في اليوم الأول، يَدّعون أنهم شاهدوا إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في منامهم، وفي اليوم الثاني يَدّعون لقاءه في اليقظة ثم إذا صدقهم الناس ادّعوا بأنهم نوّاب الإمام أو ادّعوا الإمامة لأنفسهم! كما كان عليّ محمد الباب الأول يدّعي أنه باب الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، ثم عندما وجد أن الناس يصدّقونه، ادّعى أنه هو الإمام، وبعد ذلك ادّعى النبوّة وأنه جاء بكتاب سماوي. أما خليفته حسين بن علي البهاء، فقد ذهب أكثر من ذلك إذ ادّعى الألوهية.
1.نهج البلاغة، خطبة 17.
2.تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج16، ص85.