نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

أبغض عباد الله (3): مَن وكَله الله إلى نفسه

وصايا العلماء
آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي

"وإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَعَبْداً، وَكَلَه اللَّه إِلَى نَفْسِه، جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، سَائِراً بِغَيْرِ دَلِيلٍ، إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ، وإِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الآخِرَةِ كَسِلَ، كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَه وَاجِبٌ عَلَيْه، وكَأَنَّ مَا وَنَى فِيه سَاقِطٌ عَنْه... أَيُّهَا النَّاسُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ، يُكْفَأُ فِيه الإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الإِنَاءُ بِمَا فِيه، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّه قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ، ولَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ، وقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (المؤمنون: 30)"(1).

أبغض الناس إلى الله شخصٌ قمع وجدانه وترك التعاليم الإلهية. هؤلاء الأشخاص حرمهم الله تعالى من عنايته وهدايته
بحثنا في الحلقات السابقة حول جزئين من الخطبة 86 من نهج البلاغة، حيث تمحور الجزء الأول حول وصف العظماء المخلصين الذين اختارهم الله تعالى، وتمحور الثاني حول بعض عباد الله. وأشرنا فيها إلى أن الله تعالى لا يحرم المحبوبين من عباده من لطفه وعنايته ولا يكلهم لأنفسهم.
وفي هذه الحلقة نختار جزءاً من الخطبة 102، وقد قال فيها الإمام عليه السلام: "وإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَعَبْداً، وَكَلَه اللَّه إِلَى نَفْسِه، جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، سَائِراً بِغَيْرِ دَلِيلٍ".

*محرومٌ من الهداية الإلهية
إنّ أبغض الناس إلى الله شخصٌ قمع وجدانه وترك التعاليم الإلهية. هؤلاء الأشخاص حرمهم الله تعالى من عنايته وهدايته، وبما أنهم يعتمدون على آرائهم وأفكارهم الباطلة، فقد وكلهم إلى أنفسهم. ومن جملة ما يدلّ على عدم اهتمام الله بهم، أنهم غفلوا وابتعدوا عن الطريق الصحيح الذي يوصل الإنسان إلى القرب من الله، فيتحركون في الحياة من دون مرشد، ومن دون دليل.
من الطبيعي أنّ الذي يكون محروماً من هداية وإرشاد حاملي العلوم الإلهيّة ومفسّري الوحي والأئمة المعصومين عليهم السلام، والذي لم يُقْبل على الدين وقوانين وتعاليم الشريعة، سيكون من الهالكين.

*الارتباط بالأنبياء والأولياء

نحن بحاجة إلى عون الله تعالى في كافة مراحل حياتنا. وإذا حُرمنا من عنايته وعونه وهدايته سنسقط. فلا يمكن الوصول إلى المقصد من دون عناية الله. وأما المحروم من الهداية فلن يؤول مصيره سوى إلى الانحراف عن الحق والضلال. لا يمكن لشخص السلوك في مسير الحق إلا إذا كانت هدايته عن طريق الأنبياء، فالله تعالى يهدي أنبياءه مباشرة من دون واسطة، ويهدي الناس بواسطة الوحي والأنبياء وخلفائهم.

فالكلام غير المستند إلى كلام الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، فاقد للاعتبار والحجيّة. لذا، ينبغي لطالبي الهداية والوصول إلى الحق والسعادة الارتباط بالأشخاص الذين يأنسون بكلام الله وأوليائه، والذين صرفوا عمرهم في فهمه وإدراكه، وينبغي لهم نيل المعارف الصحيحة منهم ليهتدوا إلى مسير الهداية الصحيح.

*إذا دُعي إلى الدنيا أقبل
"إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ، وإِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الآخِرَةِ كَسِلَ، كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَه وَاجِبٌ عَلَيْه، وكَأَنَّ مَا وَنَى فِيه سَاقِطٌ عَنْه".
إنّ الذي يوكله الله تعالى إلى نفسه، لن يكون له هادٍ ثقةٌ، بل هو يبحث عن شخص ضالّ بنفسه أو أنه يعتمد ويثق بفكره ورأيه غير المعتَبرين. ومن علامات ضلاله أنه إذا دُعي إلى منفعة الدنيا والتجارة فيها أَقْبَلَ.
هذا الشخص يعرف قوته في التجارة والعمل والكسب الدنيوي، ليصل إلى الثروة التي يبحث عنها. طبعاً الشيطان لا يتركه ونفسَه، بل يحرّكه بوساوسه فيدفعه إلى تأمين حاجاته وميوله عبر طرق غير مشروعة. ولكن، هذا الإنسان عندما يُدعى إلى تجارة الآخرة، يكسل ويقصّر ويتقاعس عن العمل للوصول إلى الثروة الخالدة.

*حرث الآخرة ثروة
استخدم الإمام علي عليه السلام في كلامه عبارتين قرآنيّتين: ﴿ حَرْثَ الدُّنْيَا و﴿حَرْثَ الْآخِرَةِ ليلفت انتباهنا إلى حقيقة وهي أنّ الدنيا عبارة عن مزرعة أو محل تجارة. إذا اعتبرنا الدنيا أصيلة وصرفنا قِوانا للوصول إليها وبذلنا كل جهودنا لتحصيلها، فلن نحصل سوى على متاع قليل لا أهمية له. ولكن إذا استفدنا من هذه الفرصة لكسب الكمالات والمقامات المعنوية وللحصول على رضا الله تعالى، فسنصل إلى ثروة لا نهاية لها، أي الآخرة ورضوان الله. يقول الله تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (الشورى: 20).

ثمّ بيّن الإمام عليه السلام أن هذا الشخص يسعى ويجدّ للقيام بما لم يكلّف به شرعاً وبما لا يحمل له منفعة. مثال ذلك، التلميذ أو الطالب الذي يبذل جهوداً في مطالعة كتب لا فائدة فيها، لا على مستوى الدنيا ولا على مستوى الآخرة. هذا الشخص نراه يضعف ويكسل في تعلّم الأصول العقائدية، والتكاليف؛ وكأنّ هذه الأمور ليست واجبة عليه.

*الاهتمام بمعارف الدين الحقّة
"أَيُّهَا النَّاسُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ، يُكْفَأُ فِيه الإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الإِنَاءُ بِمَا فِيه...". يبيّن الإمام عليه السلام أن زماناً سيأتي يفقد فيه الإسلام في المجتمع المضمون والحقيقة, فلا يبقى منه إلا الاسم والظاهر. ويحذّرنا الإمام عليه السلام وينبّهنا كي لا نكون شركاء في ذلك. فلنعمل على تقويَة إيماننا ونتعلّم معارفنا وعقائدنا الدينيّة من العلماء الصالحين والأتقياء فلا ندخل أهواءنا وآراءنا في التكاليف والوظائف الدينيّة.

 وفي هذا الإطار، علينا عدم الاعتماد على أشخاص كلامهم وسلوكهم غير حجّة من الناحية العقلية والشرعية، بل، يجب أن نعتبر أنفسنا، كما أشار عظماء الدين، مخاطَبين عند تلاوة الآيات الإلهية؛ هكذا كان أولياء الله من حيث رعاية هذ الأدب الإلهي. كانت أعينهم تفيض بالدمع عند نزول آيات العذاب الإلهي، وكانوا يستبشرون إذا نزلت آيات الرحمة، والبشارة بالجنة والنِّعم الإلهية.

كذلك عندما نقرأ كلمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام، وبالأخص كلمات أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الخطبة، يجب أن نعتبر أنفسنا مخاطَبين بها، لأن هذا الكلام موجّه للجميع، إلا في الموارد الخاصة التي جاء فيها التقييد والتخصيص.

إن معرفة العام والخاص، والمطلق والمقيّد، والناسخ والمنسوخ في الروايات، يحتلّ أهميّة خاصّة؛ حتى أنّ الفقهاء والعلماء صرفوا من عمرهم سنوات طويلة لمعرفة هذه الأمور، وليتمكّنوا من تقديم الإرث العظيم لأهل البيت عليهم السلام.
وقد نُقلت قصص عجيبة حول عظمة جهودهم، ومساعيهم في تعلّم تلك المعارف الخالصة. ومن جملة ما جاء في قصّة صاحب الجواهر رحمه الله، وهو من أركان الفقه والفقاهة الذي استفاد منه، كما اعترف، كافة فقهاء عصره. حيث جاء في قصة تأليف كتابه، الجواهر؛ أنه قد مات له ولد، وبقيت جنازته في البيت حتى الصباح حيث سيغسّل ويكفّن ويشيّع ويدفن في اليوم التالي. فكّر الوالد ووصل إلى نتيجة وهي أنّ أفضل هديّة يقدّمها لروح ابنه، تدوين كتاب الجواهر حيث جلس طوال الليل يدوّن أبحاث من ذاك الكتاب، ثم أهداها لروح ولده.

من هنا، يبنغي القول إنّ اللائق أن يُقْبل الناس على تعلّم معارف وأحكام الدين من العلماء الصالحين الذين استخرجوا معارف الدين بإخلاص بعيداً عن الأهواء والميول والمنافع الشخصيّة.

*ليس في ساحته ظلم

"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّه قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ، ولَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ، وقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (المؤمنون: 30)".
ينزّه الإمام عليه السلام ساحة الحق من ظلم العباد. وأما سبب نفي الظلم من الله تعالى، فهو أن علّة الظلم غير موجودة فيه، لأنه الغني المطلق لا حاجة لديه ليرتكب الظلم بسببها. وقد اجتمعت فيه كافّة الكمالات وهو المنزّه عن كل عيب ونقص. لذلك لا يرتكب الظلم. وتشهد الآيات القرآنية على العدل الإلهي ونفي الظلم عن ساحة الربوبية. يقول الله تعالى:﴿وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (آل عمران: 182).
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (يونس: 44).

الله تعالى لا يظلم عباده، إلا أنه لم يتعهّد عدم اختبارهم. والاختبار سنّة من سنن الله القطعيّة والثابتة حيث تجري في مجال الأعمال الاختياريّة التي قدّرها الله تعالى للإنسان. أما أدوات الاختبار فمنها أمور مطلوبة ومقبولة عند البشر، ومنها أمور غير مقبولة. وبعبارة أخرى يتحقق الاختبار الإلهي مع وجود اللذات والأمور المقبولة والآلام والأمور غير المقبولة. الناس مكلّفون التغاضي عن بعض اللّذائذ والصبر على بعض الآلام فيجري عند ذلك الاختبار. وهذا يعني أن اللذائذ والآلام أصل في الحياة الدنيوية وهي موجودة في التدبير الإلهي.


(1) نهج البلاغة، الخطبة 102.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع